شهدت فرنسا مأساة غير مسبوقة، إثر تنفيذ عمليات إرهابية بتوقيت موحّد، في أهم معالم باريس، راح ضحيتها قتلى وجرحى كثيرون، وعوقبت باريس التي لا تنام على مدار الساعة بإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول، ورفع مستوى التأهب، للمرّة الأولى منذ عقود، إلى الدرجة الحمراء “ألفا”، بعد تنفيذ هذه العمليات الإرهابية التي أطلق فيها ما يزيد على ألف عيار ناري في مسرح باتاكلان في باريس، وفجّرت أحزمة نارية في أماكن أخرى، وهذا هو الحادث الإرهابي الثاني الذي تشهده باريس خلال العام الحالي 2015.
إعلان حالة الطوارئ وإغلاق الحدود
باريس عاصمة منفتحة على الحضارات كافة، وتعمل الأجهزة الأمنية الفرنسية، على مدار الساعة، للحفاظ على الأمن، والحيلولة دون وقوع عمليات إرهابية، خصوصاً وقد عانت باريس، في يناير/كانون ثاني الماضي، من اعتداء دموي ضدّ طاقم صحيفة شارلي إيبدو. وعلى الرغم من المهنية العالية لأجهزة الأمن الفرنسية، تعرّضت باريس لهزّة جديدة، أنجزتها مجموعة من الجهاديين المدرّبين بصورة متقنة، وبتنسيق دقيق وتمويل وتدريب عسكري خارجي، علمًا أنّ الأجهزة الأمنية أفشلت بعض العمليات الإرهابية أخيراً، وتوقعت، في الوقت نفسه، وقوع عمليات إرهابية جديدة، من دون معرفة الوقت والمكان وآليات التنفيذ، لتفضيل الخلايا الإرهابية العمل بصورة مستقلة، واتخاذ القرار، من دون العودة إلى المركز، وتبقى إمكانيات وقوع مزيد من هذه العمليات قائماً في المستقبل المنظور.
ذكر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، للمرة الأولى، كلمة الخوف، في كلمته المقتضبة في الساعات المتأخرة من مساء الجمعة، 13 نوفمبر/تشرين ثاني الماضي، حيث أعلنت حالة الطوارئ في فرنسا، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى حظر التجول ومنع مرور العربات والشاحنات والتصريح عن تشكيل مناطق أمنية مغلقة بالكامل.
المعايير الأمنية المعلنة شبيهة بالتي سنتها فرنسا في حرب التحرير الجزائرية، وستمارس الأجهزة الأمنية حقّ التفتيش والاعتقال، أينما وكيفما شاءت، ويمكنها أن تفرض كذلك الرقابة الصارمة على وسائل الإعلام، عملياً بدأت مرحلة جديدة متوقعة للحدّ من الحريات الشخصية باسم الأمن والاستقرار.
علامات استفهام بشأن اتفاقية الشنغن
سارعت بلجيكا باستعادة نقاط ومراكز رقابة أمنية على الحدود المشتركة مع فرنسا، وسيتم تفتيش أفواج المسافرين بين البلدين، جواً وبراً، وعلى متن القطارات السريعة. عمليًا، انتهت مرحلة العبور الحرّ بين البلدين، وقريباً سترفع دول أوروبية عديدة حواجز تقنية، وربّما جدراناً وأسلاكاً شائكة داخل حدود المنظومة الأوروبية. وفي أفضل الأحوال، ستفرض إجراءات رقابة حثيثة على الحدود الداخلية، من دون إغلاقها أو المطالبة بتأشيرات دخول، لكنّ هذه الخطوة تعتبر شرخًا أصوليًا للحلم الأوروبي الداعي إلى التجوّل والتنقّل بحرية بين دول المنظومة.
أدى الحادث إلى إلغاء زيارات رسمية عديدة من وإلى فرنسا، كما عطّل الرئيس الفرنسي
مشاركته في اجتماع قمة العشرين التي عقدت في مدينة أنطاليا التركية. وعلى المستوى البعيد، هناك توقّعات حقيقية وخطرة لانقسام القارة الأوروبية إلى قطبين سياسيين، فور انتهاء أثر صدمة الحدث، وسيستثمر اليمين الأوروبي المتطرف الهجمات الإرهابية إلى أبعد الحدود، لتأليب الرأي العام ضدّ التوجهات الليبرالية والديمقراطية في هذه الدول. عملياً، هناك مخاطر لانقسام المجتمع الأوروبي بشأن حقوق، بل وجود الأقليات بين فئات المجتمع، ويتوقع كثيرون بدء عمليات انتقام مبرمجة وعشوائية ضدّ اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، رافق ذلك ارتفاع أصوات كثيرة مطالبة بتسفير فوري للاجئين، بعيدًا عن أراضي المنظومة الأوروبية، بغض النظر عن انتماءاتهم وجنسياتهم.
وقامت الأجهزة الأمنية في معظم دول المنظومة الأوروبية، بعمليات تفتيش واعتقالات موسعة، طاولت كل تجمعات الأقليات، ومن المتوقع تضييق الخناق على حرية الحركة والتحويلات المالية ومراقبة دفق المعلومات عبر الإنترنت ووسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي. وقدمت العمليات الإرهابية في باريس خدمة غير مسبوقة لليمين المتطرف الذي قرع طبول الحرب، وأعلن اقتراب اندلاع الحرب العالمية الثالثة، مطالباً، على الفور، بإغلاق الحدود وتسفير اللاجئين بالجملة، بل وحتى التسليح الفردي للدفاع عن الذات عند الضرورة، كما الحال في الولايات المتحدة الأميركية، مع إدراكهم لوقوع آلاف الضحايا من المواطنين في أميركا الذين يلقون حتفهم في أثناء عمليات إطلاق النيران العشوائية في المدارس والتجمعات البشرية.
هناك دلالات عديدة بشأن اختيار الأماكن التي تعرّضت للتفجيرات الإرهابية، وهي المنطقة العاشرة والحادية عشرة الباريسية، حيث تجمّعت الفئات الشبابية، ذات التوجهات اليسارية الاشتراكية، التي انتخبت محافظ المنطقة من حزب الخضر، وصوّتت لآن هيدالغو، الأندلسية المنشأ، لمنصب عمدة باريس، وتفضيلها خلال انتخابات العام الماضي على المرشحة اليمينية ناتالي موريزيه، ورواد هذه المناطق في معظمهم من الجنسيات المختلفة. كما شهدت باريس هجوماً تمّ بالقرب من استاد باريس، رمز اندماج الأقليات في المجتمع الفرنسي، حيث تجلّى نجم الكرة العالمي، زين الدين زيدان، ويمارس فيه حاليًا رياضة كرة القدم لاعبون محترفون من كل الجنسيات المختلفة.
لم تختر المجموعات الإرهابية الشانزيليزيه أو المناطق المحافظة الواقعة على يسار نهر السين أو المراكز الحكومية، بل ضربت التجمعات الشبابية اليسارية المتعاطفة نسبياً مع الأقليات، وهذا بمثابة تحدّ كبير وغير مسبوق للمجتمع الأوروبي، ومقدّمة لتوجهات دكتاتورية ناعمة قد تؤدي إلى الحد من الحريات لاعتبارات أمنية، كما شهدت الولايات المتحدة الأميركية إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
مسلسل العنف
الأزمة السورية حاضرة في الحدث الدولي والإقليمي، لم تنجح المعارضة السورية السلمية التي
انطلقت مطالبة بالعدالة والحريات قبل سنوات، وسرعان ما تصاعد العنف، وتسلّحت المعارضة في محاولة للدفاع عن نفسها ووجودها، ثمّ ظهرت التنظيمات الراديكالية عبر الحدود الواسعة المفتوحة. واستخدمت الأسلحة التقليدية والنوعية والكيميائية والبراميل المتفجرة فوق المدن والقرى ورؤوس العباد الآمنين في أنحاء سورية، ليظهر تنظيم داعش. وفي الأثناء، يستمر التمويل والتسليح والعبث بأمن الإقليم. وأخيراً، تقرّر روسيا التدخل العسكري مباشرة لصالح النظام السوري، ويتواصل مسلسل العنف وتوجيه الضربات الجوية ضدّ المدن والأحياء الشعبية. وسط كلّ هذا الدمار والموت، شهدت تركيا وسيناء وشرم الشيخ، وباريس للمرة الثانية، بعضاً من القهر وأعمال العنف.
وكانت المنظومة الأوروبية قد قرّرت، في مؤتمر القمة الأوروبي الأفريقي، الذي عقد قبل أيام في مالطا، منح الدول الأفريقية نحو ملياري يورو، للحدّ من موجات الهجرة القادمة من إفريقيا، وتخصّص القارة الأوروبية المليارات لمكافحة الإرهاب، وتعتبر اللجوء جزءاً من مخاطر الإرهاب المتوقع فوق أراضي المنظومة الأوروبية.
الدكتاتورية منبع الأصولية والتعصّب
يتعامل الغرب مع مشكلات العالم العربي من وجهة نظر أنانية للغاية، ويتحسر مثقفون عديدون في أوروبا لغياب معمّر القذافي مثالا، لأنّه لعب دور صمام الأمان في وجه موجات الهجرة القادمة من إفريقيا متوجهة عبر البحر إلى أوروبا، خلافًا لما تشهده القارة الأوروبية في الوقت الراهن، بغض النظر عن موقف الشعب الليبي من زعيمه المغدور، والطريقة التي حكم بها ليبيا في العقود الماضية، وينطبق الأمر على مواقفهم بشأن مخاض الربيع العربي في الدول التي شهدت محاولات لتغيير الحكم الشمولي، وتحقيق أسس الديمقراطية ونيل الحريات.
وتقول الصحفية الإيطالية الموجودة في سورية منذ سنوات، فرنتشيسكا بوري، إنّ تنظيم الدولة
في نظرها هو السائق الذي يقود الشاحنة بين حلب وباقي سورية لتأمين الطعام للأهالي، وليس السفاح جون، وهي مصرة على البقاء في سورية، حتى انتهاء الحرب هناك، لتقديم المساعدات الإنسانية للأهالي والمصابين، وتؤكّد أنّ الأمم المتحدة لم ترسل أيّة مساعدات لسكان سورية المنكوبين، في فترة وجودها الطويلة بينهم. وتضيف إن الغرب فشل في فهم العالم العربي، بل ويبدو غير راغب بفهم هذه الحضارة. وأوضح نيكولا إينين الصحافي الفرنسي الذي أطلق داعش سراحه، أخيراً، ليعود إلى فرنسا، أن جهاديي داعش لا ينتمون للثقافة المحلية، بل هم نتاج للثقافة الغربية، يشاهدون الأفلام نفسها ويلعبون ألعاب الفيديو الغربية نفسها. كلا الصحفيَين يرون أنّ منابع الراديكالية والعنف في الإقليم، وما نتج عنهما من تصدير للحرب إلى فرنسا، وغيرها يتمثل في عدم وجود إرادة سياسية غربية لمواجهة الدكتاتوريات العربية، ورفض مسالكها القمعية.
ويرى الخبراء والمحللون أنّ “داعش” هو نتيجة منطقية للاستبداد، وحال التغلب على الدكتاتورية في الإقليم، سيفقد داعش نصف أنصاره على الفور، لانفتاح الآفاق أمام فئات الشباب الذين وجدوا أنفسهم ضحية دوامة العنف في الإقليم في السنوات القليلة الماضية، وهذه هي الخطوات الحقيقية الجادّة لمواجهة التطرف والإرهاب.
قلق وتوتر في دول المنظومة الأوروبية
طالب قادة وزعماء في مؤتمرات القمة الأوروبية، أخيراً، بإغلاق حدود المنظومة الأوروبية، لوقف تدفق اللاجئين بالقوة، ولتتمكن المنظومة من استيعاب الموجودين فوق أراضيها من اللاجئين. وافتتاح مراكز لجوء خارج إطار المنظومة، لتحديد المستحقين للحصول على وثائق اللجوء والإقامة في أوروبا.
وهناك ضرورة للتمييز بين المواطنين المتورطين في العمليات الإرهابية والحاملين جنسيات غربية، وما بين مئات آلاف من اللاجئين الباحثين عن مخرج آمن من دوّامة الموت المتواصلة في الإقليم. لكن القلق والتوتر فرض حضوره في دول عديدة في المنظومة، فقد امتنعت بولندا، مثلاً، عن قبول حصّتها من اللاجئين، وفق خطة التوزيع التي أعلنتها بروكسل بين دول المنظومة، أخيراً، إثر الأحداث الإرهابية التي شهدتها باريس. كما تمّ الإعلان عن تأجيل مسابقة يوروفيجن للأطفال في صوفيا، حتى انتهاء فترة الحداد الوطني ثلاثة أيام في فرنسا، ولرفع حالة التأهّب الأمني لحماية مهرجان الغناء الدولي للأطفال.
وطالب أندريه بابيس، نائب رئيس الوزراء التشيكي وزعيم حركة “مواطنون ساخطون 2011″، بإغلاق كامل حدود فضاء الشنغن، وصرّح أنّ أوروبا تواجه حرباً حقيقية مع الإرهاب.
حرب برية ضدّ داعش
وطرح خبراء استراتيجيون، في مداولاتهم أخيراً، أفكارًا بشأن الحصول على تصريح أممي بقرار من مجلس الأمن، لشنّ حرب برية شاملة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، وإطاحة رأس الأفعى، ويبدو أنّ لهجة التسامح المألوفة في أوروبا آخذة بالتراجع، إثر الضربات في باريس. مع وجود قناعة شبه كاملة بعدم جدوى الهجمات الجوية، وضرورة الحسم العسكري على الأرض، والعمل، قبل ذلك، على وقف تمويل داعش وتسليحه بكل الطرق الممكنة. ترتفع هذه الأصوات في المنتديات الأوروبية، في وقت يبدو فيه حلّ الأزمة في سورية بطرق سلمية، وحول طاولة المفاوضات شبه مستحيلة في الوقت الراهن. لكن، هل الغرب حقاً مستعد لتقديم آلاف الضحايا البشرية في حرب برية طاحنة؟
قد يكون الوقت قد حان ليتعامل الغرب مع أزمات الشرق الأوسط بشكل جادّ وعادل، إذا رغب أن يحقن دماء شعوبه، والإبقاء على الحريات والمبادئ الديمقراطية التي أنجزها في القرون الماضية، والتوقف عن التعامل مع أزمة اللاجئين باعتبارها مجرّد أرقام وإحصائيات، يمكن معالجتها والتغلب عليها بضخّ المليارات للبقاء بعيدًا عن حدودها، في زمن أصبحت فيه الحدود الدولية افتراضية، وغير قادرة على البقاء مغلقة، مهما ارتفعت الجدران والحواجز التقنية على طول الحدود الممتدة بين القارات والبحار والمحيطات.
خيري حمدان
صحيفة العربي الجديد