لم تتوقف الاحتجاجات في طول وعرض الولايات المتحدة منذ مقتل جورج فلويد على يد الشرطة، فعلى مدى أسبوعين استمرت الانتفاضات التي فاضت بها الشوارع والمدن الأمريكية. لقد خرجت كبرى المظاهرات السبت والأحد الماضيين، ففي واشنطن العاصمة امتلأت المدينة بالمتظاهرين الذين وصلوا للمائتي ألف.
لقد تجاوز الحراك الأمريكي العلاقات بين الملون والأبيض، بسبب نمو سريع في زخم وقوة الحركة الشعبية التي نجحت حتى الآن في بناء تحالفات جوهرها العداء للعنصرية والمطالبة بإصلاحات سياسية وقضائية واقتصادية شاملة.
إن المشكلة الأمريكية الراهنة هي نتاج تناقضات هائلة. فعلى سبيل المثال سنجد أن كبار أصحاب رؤوس الأموال الأمريكيين حققوا عبر أسواق البورصة الأمريكية أرباحا وصلت إلى 500 مليار دولار في الشهور القليلة الماضية (في فترة كورونا)، وقد تم ذلك في وقت فقد أكثر من أربعين مليون أمريكي وظائفهم. إن اقتصاد وول ستريت واقتصاد البورصة الأمريكية لم يعد انعكاسا أمينا للواقع الاقتصادي التشغيلي الأمريكي.
لقد ارتكب ترامب أخطاء كبرى منذ مقتل جورج فلويد على يد الشرطة، فدعوته «للسيطرة على الشارع» بالقوة واتهامه لحكام الولايات بالضعف أغضبت الكثيرين، لكن قيامه بالسير نحو الكنيسة قرب البيت الأبيض بعد إبعاد المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع والهراوات أساء اليه أمام الأمريكيين. لقد قامت رئيسة بلدية واشنطن في اليوم التالي بالمطالبة بسحب الحرس الوطني، ثم قامت بتغيير اسم الشارع الملاصق للبيت الأبيض لشارع «بلاك لايفز ماتر بلازا» ( شارع: لحياة السود قيمة). وقد رد قطاع كبير من الأمريكيين على الرئيس ترامب بالمزيد من النزول للشارع.
ومن غرائب هذه اللحظة الأمريكية، أن الرئيس ترامب نزل للملجأ في ليلة فاض فيها المتظاهرون في المدينة، لكن ترامب لم يقل الحقيقة عن الحادثة، بل أكد أن نزوله للملجأ كان من أجل التفتيش فقط. لكن المدعي العام قال من جهته أن الرئيس نزل للملجأ مع أسرته بسبب مخاوف أمنية. الرئيس ترامب هو أول رئيس أمريكي يعلن أنه سيبنى جدار مع المكسيك، لكنه انتهى إلى بناء جدار حول البيت الأبيض يفصل بينه وبين الشعب الأمريكي.
على مدى السنوات الثلاث الماضية نجح الرئيس ترامب في تدجين وتحييد الكونغرس والكثير من المؤسسات الأمريكية التي طالما افتخر الأمريكيون أنها الحصن الحامي لهم. لكن ترامب لم ينجح في إسكات الإعلاميين الكاشفين للحقائق، كما لم ينجح الرئيس ترامب في تعبئة المـؤسسة العسكرية بهدف ضرب المتظاهرين، وهو أيضا لم ينجح في منع الشعب الأمريكي من الاحتجاج والنزول إلى الشوارع في ظل مخاطر انتشار جائحة كورونا.
بدأت خطط الإصلاح في عدد من الولايات وذلك في ظل الانتفاضة الراهنة. فبعض الولايات خفف من ميزانيات البوليس وقام بتحويل أموالها لصناديق تعنى بالأقليات ومناطق الملونين
لقد وضعت مواقف ترامب الكثير من الأمريكيين وعلى الأخص الجمهوريين وأنصاره اليمينيين في تناقض بين ولائهم له وبين القيمة الأخلاقية لما يؤمنون به من دستور وحقوق. إن تصريحات قادة عسكريين منهم وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس ورئيس الأركان السابق وزير الخارجية في زمن بوش الابن: كولين باول، وايضا الأدميرال جمس ستافريدز الرئيس السابق لقوات الناتو يؤكد وجود توجه للتنصل من مواقع الرئيس. كما أن انضمام عدد من الشخصيات المعروفة في التمثيل والرياضة وانضمام ميت رومني المرشح الرئاسي الجمهوري السابق للمتظاهرين يمثل تحولا نوعيا.
ويمثل قيام بات روبرتسون، أحد أهم قادة الأنجيليين الأمريكيين بنقد الرئيس لحظة تحول في صفوف قطاع مؤيد له. كما أن تصريح رئيس رابطة لعبة الفوتبول (NFA) روجر غوديل الذي قدم اعتذارا بسبب فصل لاعبين سود ممن رفضوا الوقوف للنشيد الوطني عند افتتاح المباريات يعكس طبيعة الوعي الرافض للعنصرية.
وقد ندد الرئيس السابق أوباما منذ أيام بالعنصرية وطرح تصوراته، كما أن الرئيس السابق جورج بوش دعا للوحدة والتعلم من الأخطاء، منتقدا سياسة إدارة ترامب. إن تصريح الرئيس السابق بوش مثل تحديا واضحا للرؤية اليمينية الراهنة التي تعتبر أن البوليس لا يخطئ وأن المتظاهرين عبارة عن غوغاء. لقد هوجم الرئيس السابق جورج بوش من قبل اليمين بسبب تصريحه لأنه يساهم في انفضاض مزيد من الجمهوريين من حول الرئيس ترامب.
لقد بدأت خطط الإصلاح في عدد من الولايات وذلك في ظل الانتفاضة الراهنة. فبعض الولايات خفف من ميزانيات البوليس وقام بتحويل أموالها لصناديق تعنى بالأقليات ومناطق الملونين. كما أن ولاية نيويورك بدأت بإصلاحات قانونية تجاه الأقليات والمناطق المحرومة وتجاه البوليس وحدود صلاحياته. كما أن حاكم ولاية نيويورك يناقش أهمية بناء مساكن لذوي الدخل المحدود بحيث يمكن شراؤها بأسعار معتدلة. بعض المدن بدأت بإصلاحات لمؤسسة القضاء، كما أن مدينة مينيابوليس ألغت الكثير من عقودها مع بوليس مينيابوليس. فبموجب تلك العقود يؤمن البوليس الحماية للجامعات والمدارس وغيرها.
لقد تراجعت مكانة ترامب في الشهور القليلة الماضية في جميع الاستطلاعات، وتراجعت فرصه الانتخابية. بنفس الوقت لقد تقدم جو بايدن استراتيجيا في استطلاعات الرأي. لكن تقدم بايدن سيتعزز إن اختار شخصية نسائية سوداء وإصلاحية قريبة من منطق حراك الشارع كنائبة له في حملته الانتخابية.
سيتوقف الكثير من الآن وصاعدا على الحراك الشعبي الأمريكي ومدى مقدرته على إدامة الزخم. في الولايات الأمريكية يبدأ التغيير بسبب الانتفاضة الأمريكية من الأسفل للأعلى، وهو يقع في المقاطعات والولايات والمدن والضواحي، وهذا ما قد تحققه بنجاح هذه الانتفاضة قبل موعد الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. لقد بدأت معركة التحضير لواقع سياسي يعيد إلى الولايات المتحدة التوازن بما يسمح لها بالتصدي لمهام العدالة والمساواة التي فقدتها بالكامل منذ انتخاب الرئيس ترامب.
شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي