لندن- من غير المستبعد أن تحسم قمة المناخ (كوب 27) التي تنعقد في شرم الشيخ، الجدل حول ما إذا كان يتعين على الدول الغنية أن تقدم تعويضات إلى الدول الفقيرة الأكثر تأثرا بعواقب التغير المناخي، إلا أن الوفاء بالتعهدات يظل شيئا آخر.
ومع تصاعد الضغوط التي تتعرض لها اقتصادات الدول الغنية سيعود مؤتمر شرم الشيخ ليكرس ظاهرة عدم الوفاء بالالتزامات، ما يجعله حفلا إضافيا لإطلاق الوعود، بينما الكارثة المناخية تزداد ضخامة ويسود الاعتقاد لدى علماء المناخ بأن البشرية تخلفت بالفعل عن الوفاء بالتزاماتها، ليس حيال الدول الفقيرة فحسب وإنما أيضا حيال التزاماتها المناخية الخاصة.
وكانت الدول الغنية تعهدت في كوبنهاغن عام 2009 بتقديم مساعدات سنوية تبلغ 100 مليار دولار، إلا أنها لم تف بها. وتكررت التعهدات حتى “كوب 26” في غلاسكو (أسكتلندا)، لكن المبلغ الذي تم تقديمه بالفعل أقل بنحو 21 مليار دولار، وذلك على الرغم من تراجع قيمة التعهد الأصلي قياسا بحجم ما وقع من أضرار.
وسبق للاتحاد الأوروبي (ثالث أكبر مسبب للتلوث في العالم) أن وعد في “كوب 26” ببدء العد التنازلي للانبعاثات في عام 2023. إلا أن الحرب في أوكرانيا قلبت الحسابات.
وبينما تعهدت دول، مثل ألمانيا والولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا، بوقف التمويل العام لمشاريع الوقود الأحفوري خارج أراضيها بحلول نهاية عام 2022، إلا أن هذه الحرب قلبت الحسابات هنا أيضا.
وفي حين قالت الأمم المتحدة ضمن تقرير صدر العام الماضي إنّ الدول النامية ستحتاج إلى ما يصل إلى 340 مليار دولار سنوياً حتى العام 2030 للتكيف مع تغير المناخ، قدّر تقرير صدر في يونيو الماضي عن 55 دولة معرضة للخطر خسائرها المجمعة المرتبطة بالمناخ على مدار العقدين الماضيين بنحو 525 مليار دولار، تمثل تقريبا 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لها جميعا. وهذه الخسائر يمكن أن تصل إلى 580 مليار دولار كل عام بحلول 2030.
ويعني التخلف عن توفير أموال المساعدات إهمالا متعمدا لما تعنيه عواقب التغير المناخي من أضرار تهدد حياة مئات الملايين من الأشخاص.
وتقر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الآن بتقديم مساعدات إلا أنهما لا يريدان تقديم التزامات محددة، ويريدان من الصين بوصفها ثاني أكبر الملوثين وروسيا بوصفها الملوث الرابع بعد الاتحاد الأوروبي أن تقدما مساهمات موازية، وهو أمر مازال بعيد المنال.
ووسط كل السجال الدائر حول مَنْ يجب أن يدفع وماذا سيدفع؟ سيواصل صندوق المساعدات الجدل حول مَنْ يجب أن يتلقى المساعدات؟ ومن أجل من؟ أو ما هي التوظيفات الممكنة للمساعدات؟ وهل تذهب إلى أعمال الإغاثة أم إلى أعمال تحول دون وقوع الكوارث، أو تكتفي بالحد من مخاطرها؟
وقال تقرير “التكيف السنوي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة”، الذي أعقب انعقاد قمة غلاسكو (كوب 26) في نوفمبر الماضي، “بينما كانت معظم الدول تخطط للتكيف مع تغيرات المناخ، كان التخطيط بطيئا للغاية وتجاوزت الاحتياجات المالية الدعم المتاح”.
وحذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وفق ما أورده التقرير، من أنّ “العالم يفشل في حماية الناس من الآثار الحالية لأزمة المناخ”.
ويُخشى أن يتكرر الفشل أكثر مما حدث على مر السنوات الماضية، بالنظر إلى الضغوط الاقتصادية التي ترزح تحتها الدول الغنية، والتي نجمت عن ارتفاع فواتير الطاقة وأعباء التضخم والركود وغير ذلك من الأسباب.
ويقول علماء المناخ اليوم إن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في طريقها إلى الارتفاع بنسبة 10 في المئة، بدلا من خفضها بنسبة 45 في المئة بحلول عام 2030. وبالتالي فإنه بدلا من خفض حرارة الأرض صارت تتجه نحو الارتفاع لتصل إلى حوالي 2.8 درجة بحلول نهاية القرن، ما يشير إلى “تحول لا رجعة فيه”، بحسب ما يُنتظر وقوعه من أضرار على مختلف أوجه الحياة الطبيعية وتوازناتها القائمة الآن.
◘ التخلف عن توفير المساعدات يعني إهمالا متعمدا لما تعنيه عواقب التغير المناخي من أضرار تهدد حياة مئات الملايين من الأشخاص
وعلى سبيل المثال تتوقع منظمة الصحة العالمية ارتفاع عدد الوفيات الناجمة عن تغير المناخ بما يصل إلى 140 ألف حالة وفاة سنويا. كما تتوقع المنظمة أن ترتفع معدلات الإصابة بأمراض مثل الملاريا والحميات المختلفة الناجمة عن تفشي الأوبئة.
ويقول خبراء إن أضرار التغير المناخي لا تزال تستعصي على الإحصاء، إذا تضمنت الأضرار الناجمة عن الجفاف وفقدان الموارد الزراعية والجوع والنزوح وغير ذلك. ولئن تم تقدير الأضرار المباشرة التي نتجت عن فيضانات باكستان الأخيرة بنحو 10 مليارات دولار، فإن الحقيقة هي أن التكاليف الفعلية تزيد عن 30 مليار دولار.
ويشير هؤلاء الخبراء إلى أن المشكلة لا تقتصر على عدم وفاء الدول الغنية بتعهداتها، وإنما تمتد إلى عدم قدرة الدول النامية نفسها على تحديد حجم احتياجاتها التمويلية المتعلقة بتدابير التكيف مع المتغيرات المناخية، وكذلك تدابير التخفيف من عواقبها الفعلية. وهو ما يحد من قدرة صناديق المساعدات على تحديد الوجهة المطلوبة لتوفير الأموال.
وقال تقرير “مبادرة سياسة المناخ” الذي صدر العام الماضي “منذ 2011 حتى 2021 تم إنفاق 571 مليار دولار لصالح إجراءات التخفيف على المستوى الدولي، في مقابل 46 مليار دولار أميركي فقط لصالح التكيف، بينما بقيت فجوة التكيف تبلغ نحو 160 مليار دولار بالنسبة إلى الدول النامية”.
وعلى أعتاب مؤتمر شرم الشيخ أعلن مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون المناخ جون كيري أن بلاده “تدعم بحث تعويض الدول النامية عن الخسائر والأضرار التي تلحق بها بسبب ظاهرة التغيّر المناخي، ويتعين على الدول التي وقعت اتفاق باريس للمناخ عام 2015 بذل جهود أكبر للتعامل مع الخسائر والأضرار”.
إلا أن سقف التوقعات ليس منخفضا فحسب؛ فأمل تلبية أدنى المتطلبات محدود للغاية، لاسيما وأن الدول الغنية تحتاج -فضلا عن تقديم مساعدات إلى الدول المتضررة- إلى تنفيذ الجانب الآخر من التزاماتها وهو العمل على خفض الانبعاثات.
وبحسب تقديرات وكالة الطاقة الدولية فإن هناك حاجة إلى استثمارات تقدر بنحو 3.5 تريليون دولار كل عام في قطاع الطاقة حتى 2050 لإبقاء الاحتباس الحراري تحت حد درجتين مئويتين، وهو ما يعادل ضعف الإنفاق الحالي. أما الوكالة الأوروبية للبيئة فتقول “إنّ تلوث الهواء المتأتي من الإنتاج الصناعي في أوروبا يلحق أضرارا بيئية تتراوح كلفتها بين 280 و430 مليار يورو، وهذه التقديرات توازي نحو 2 في المئة إلى 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي، وهو أعلى من الإنتاج الاقتصادي الإجمالي لعدة دول أعضاء”.
أما برنامج الأمم المتحدة للبيئة النظيفة فيقول “إن العالم بحاجة إلى استثمار ما يصل إجماليه إلى 8.1 تريليون دولار حتى العام 2050 لمعالجة أزمات الطبيعة التي ساهمت في الاحتباس الحراري”.
ولا توحي الأوضاع الاقتصادية الراهنة في العالم بإمكانية تحقيق أي من هذه الأهداف، وهي مازالت أهدافا كلامية تقصد في معظم الأحوال تخفيف الضغوط السياسية التي يثيرها نشطاء المناخ، حيث يحاول السياسيون الظهور بمظهر مَنْ يفعل شيئا.
وفي واقع كهذا لن تصاب الدول النامية أو الفقيرة بخيبة أمل شديدة فحسب، وإنما أيضا لن تجد مغيثا عندما تواجه الكارثة تلو الأخرى.
وفي أكتوبر 2021، عقب مشاركته في قمة العشرين في روما، خرج غوتيريش ليقول “على الرغم من أنني أرحب بتكرار مجموعة العشرين لالتزامها بالحلول العالمية إلا أنني أغادر روما دون تحقيق ما كنت أصبو إليه من آمال، وإن كانت لم تُدفن بعد”.
العرب