رغم عدم وجود خلافات جوهرية بين الحزبين الأميركيين الجمهوري والديمقراطي حول حيثيات الملف العراقي خصوصاً بعد مغادرة القوات الأميركية العراق عام 2011، إلا أن مزاج الرؤساء الأميركان ترك آثارا سلبية على وضع العراقيين بعد تسليم حكمهم لمجموعة من الفاسدين تحت غطاء ديني مذهبي طائفي.
ألم تعرف تلك الإدارات بما تمتلكه من أجهزة مخابرات، هي الأقوى في العالم، أن بقاء حكم تلك الميليشيات ضد مصالح العراق وحياة شعبه، أم أنها تعرف هذه الحقائق المؤلمة، لكنها تتعاطى بما تمليه عليها مصالحها، أو بالأدق مصالح رؤسائها المخيبة للآمال؟
الأمثلة كثيرة ومتواصلة؛ خلال عشرين سنة لم تكن واشنطن يوماً إلى جانب العراقيين، بل ساندت الفاسدين والقتلة دون حياء من تناقض تلك السياسيات مع الحدود الدنيا لحقوق الإنسان.
أكثر من ذاق الأذى من السياسة الأميركية وممارساتها داخل العراق هم شباب اليوم، وذلك خلال الاحتلال، وهم يحتفظون بذاكرة الألم التي لا تتلاشى في ظل تكريس ذات السياسات. أكثر من أربعة ملايين شاب يتّمتهم عندما كانوا أطفالا حملات القتل والترويع والتغييب لآبائهم أو أمهاتهم التي نُفذّت من قبل فرق موت سيئة الصيت باشتراك مُبرمج مع مرتزقة الأميركان والميليشيات الإيرانية. وكان على الإدارات الأميركية عمل الكثير لإزاحة تلك الجرائم من الذاكرة، لكنها لم تتجاوب مع الحقائق الإنسانية معتقدة أن المراهنة على الفاسدين والمجرمين الولائيين تكسبها استمرار مكانة المقام السيء مع نظام الولي الفقيه ووكلائه في العراق.
à اليوم هناك اجتياح عسكري إيراني متوقع، أسبابه الحقيقية حالة الاختناق الأمني والسياسي الإيراني بسبب ما حققته قوى المعارضة الشعبية الإيرانية من تقدم ميداني
كثيرة هي الأمثلة؛ آخرها تعامل إدارة جو بايدن مع حكومة جديدة في بغداد تعلم أنها صناعة مسؤول الملف الإيراني إسماعيل قاآني، ولعلها تتمنى لو التقى ممثلوها به مباشرة، رغم عدم استبعاد ذلك. فالحكومة الأميركية تعلن على استحياء رفض التعامل مع وزراء ينتمون إلى قيادات الميليشيات التي وضعتهم الخزانة الأميركية تحت قائمة الإرهاب. قرار لا تمتلك إدارة بايدن تجاوزه وفق القوانين الأميركية، فتضطر إلى إبلاغ حكومة محمد شياع السوداني عدم التعامل معهم. وهو موقف مضحك سياسياً، فكيف تدعم الحكومة ورئيسها الولائي الذي اختار هؤلاء وغيرهم في تعزيز حكم الميليشيات في عهده الجديد، لكنها لا تتعاطى مع بعض الوزراء؟ لو صدر مثل هذا السلوك عن دولة مثل الصومال، يمكن أن يكون مبرراً.
الإدارات الأميركية تعرف أدق التفصيلات داخل العراق، لديها الملفات في أدراج أجهزة المخابرات والبنتاغون والبيت الأبيض، الذي يديره حالياً مدّعو المعرفة التفصيلية التاريخية بالملف العراقي، لكنها معرفة مضادة لمصالح الشعب العراقي، لأن نتائج هذه المعارف والمعلومات التزام مطلق بالدعم الأمني والسياسي والإعلامي لهذه المجموعة من الأحزاب والميليشيات الحاكمة.
لهذا لا توجد ثقة شعبية عراقية بالمواقف الأميركية تجاه العراق، خاصة في ظل الانطباعات القائلة إن الأميركان قد تخلوا عن العراق، وأصبحت سياسات أحزابهم مهتمة بالداخل الأميركي، وخارجياً على الاهتمام بمجريات الأوضاع في الصين وروسيا ومستجدات الحرب في أوكرانياً.
تاريخ مقيت أسود للرئيس السابق باراك أوباما ساهم في تعزيز احتلال إيران في العراق وسياسته التخريبية في منطقة الخليج العربي. ورغم ما يقال إعلامياً إن لدى أميركا شراكة في الهيمنة على الوضع العراقي مع إيران، لكن الواقع يحكي غير ذلك؛ هناك قرارات إيرانية منفردة ومهادنة أميركية في العراق وفق لعبة المصالح التي تتقنها طهران.
هناك أمزجة مختلفة لدى الرؤساء الأميركيين في سياساتهم تجاه العراق. على سبيل المثال حين قتل أميركي في العراق عام 2020 من قبل الميليشيات الإيرانية تحت إدارة الجنرال الإيراني قاسم سليماني، كان الرد بقتل سليماني قراراً رئاسياً.
اليوم يقتل مواطن أميركي بطريقة أكثر بشاعة، وتعلن جهة ميليشياوية مسؤوليتها، فماذا فعل الرئيس بايدن؟ لا شيء سوى متابعة دبلوماسية تقليدية من قبل السفيرة آلينا رومانوسكي، التي بالغت كثيراً في تصريحاتها الداعمة للحكومة الولائية الجديدة.
اهتمامات الإدارة الأميركية بتداعيات حرب أوكرانيا لا تلغي اهتمامات دولة كبرى مثل الولايات المتحدة بالشؤون العالمية ومنطقة الشرق الأوسط، خاصة العراق الذي أقر الرئيس السابق دونالد ترامب في إحدى خطبه الأخيرة خلال النشاط الانتخابي الذي بدأه مبكراً، بأن أميركا خسرت تريليون دولار فيه بلا مقابل.
هناك اتفاقية إطار إستراتيجي بين واشنطن وبغداد في مجال الحفاظ على أمن العراق وفي الميادين الاقتصادية والثقافية وغيرها. أليس من الطبيعي أن يتم تفعليها حين يواجه البلد أيّ تهديدات عسكرية خارجية؟
التساؤل البسيط هو ماذا فعلت واشنطن تجاه الضربات الصاروخية الإيرانية على أربيل خلال الشهور الستة الماضية وهي ضمن الدولة العراقية؟ الجواب: لا شيء.
قبل يومين زار قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني بغداد، وهو يزورها متى يشاء، ليعلن بعد اجتماعاته الكثيرة مع مسؤولي الميليشيات العراقية أن بلاده “ستجتاح الأراضي العراقية عسكرياً في منطقة كردستان” وفق وكالة أسوشيتد برس.
التقى قاآني رئيس الوزراء محمد شياع السوداني ورئيس الجمهورية إضافة إلى الفصائل المسلحة، وطرح خلال اجتماعاته مطلبين: نزع سلاح الجماعات الكردية المعارضة لإيران في شمال العراق، وتحصين الحدود لمنع التسلل. وقال “إذا لم تلبّ بغداد المطالب فإن إيران ستشن حملة عسكرية بالقوات البرية وتواصل قصف قواعد المعارضة”.
طهران حين تبلغ بغداد بمثل هذا القرار فهي جادة حتما في تنفيذه، لأنها لا ترى في حكومة بغداد حامية لسيادة العراق، بل مجرد مجموعة من الميليشيات تتحول إلى حكومة طائعة للقرارات الإيرانية.
يتذكر العراقيون كيف نفذت حكومة بغداد القرار الإيراني عام 2016 بإخراج أعضاء منظمة مجاهدي خلق المدنيين المتمتعين بحقوق اللجوء الدولية. سبق لميليشيات ولائية أن اقتحمت معسكرا للمنظمة الإيرانية في ديالى حيث نفذت مجزرة ذهب ضحيتها 200 بين قتيل وجريح، تلتها مجزرة ليبرتي قرب مطار بغداد باقتحام مماثل خلف عددا من الضحايا المدنيين. في حينه بدا رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي منتشيا بهذا الانتصار الإيراني في العراق.
في ذلك الوقت لم تعترض واشنطن انطلاقاً مما تدعيه “حقوق الإنسان” على الخطوة العراقية – الإيرانية الإرهابية.
à خلال عشرين سنة لم تكن واشنطن يوماً إلى جانب العراقيين، بل ساندت الفاسدين والقتلة دون حياء من تناقض تلك السياسيات مع الحدود الدنيا لحقوق الإنسان
اليوم هناك اجتياح عسكري إيراني متوقع، أسبابه الحقيقية حالة الاختناق الأمني والسياسي الإيراني بسبب ما حققته قوى المعارضة الشعبية الإيرانية من تقدم ميداني. امسؤولون في نظام الملالي يعملون على ترحيل مأزقهم إلى الخارج، وأمامهم إقليم كردستان معتقدين أنه المنطقة الرخوة بعد بغداد.
الوضع الأمني والعسكري في غاية التعقيد، لعبة الإيرانيين ذكية وقذرة، هم يستثمرون هيمنتهم على الوضع في العراق، لكن وضع الأكراد مختلف في الجزئيات فلديهم اتفاقات عسكرية وأمنية خاصة مع واشنطن تقتضي الدفاع عنهم، كما أن العراق بأوضاعه الحالية المتدهورة لن يقدم حلاً أمنيا للحكام في طهران.
ماذا تفعل إدارة بايدن لتفعيل اتفاقية الإطار بين البلدين؟ هل ستتجاوزها وهي اتفاقية ملزمة للطرفين، وهل ستتقدم بغداد بطلب تفعيلها؟ لا يتوقع أحد ذلك.. إنها صورة للحالة الأميركية في العراق منذ أن سلمته إدارة أوباما إلى إيران.
طهران تعلم الحالة الأميركية المتراجعة في الملف العراقي، وهي تتصرف وفق تداعياتها، وميليشياتها تنفذ المطلوب إيرانياً. لم تبق حجج منطقية للقول بأن حقيقة الميليشيات ضد السياسات الأميركية داخل العراق، اللعبة اإيرانية تتعاطى وفق المعطيات المستجدة.
العراقيون يعرفون هذه الحقيقة؛ المأزق الإيراني الذي يهدد كيان نظام الملالي لا تنقذه الهيمنة الإيرانية داخل العراق.
الرئيس الأميركي الحالي لم يكن صادقاً في ادعاءاته حول دقة معرفته بتفاصيل الملف العراقي. قد يكون صحيحا في تبنيه سياسة أوباما. كانت وما زالت لديه الفرصة لتصحيح مواقف الكراهية لشعب العراق التي اختارها وما زال ملتزماً بها. لكن شعب العراق غير مكترث لذلك، يعلم أنه يواجه منذ 2003 أخطر تحالف في العصر لتدميره، وهذا سيزيحه للوقوف إلى جانب شعوب إيران في ثورتها الكبيرة.
العرب