من هذه التلة، تستطيع أن ترى الانتفاضة القادمة

من هذه التلة، تستطيع أن ترى الانتفاضة القادمة

ماذا يحدث عندما يصبح منتهكو القانون الإسرائيليون مشرِّعين

الوقت: بعد الثامنة مساءً بقليل، على تلة باردة متجمدة في قرية بيتا بالضفة الغربية. يجلس سعيد حمايل أمام نار يطقطق حطبها في الهواء الطلق، وجهه مؤطر بالدخان، ويخبرني بكيف قُتل ابنه.

يقول الأب الفلسطيني: “كان عمره 16 سنة. كان طالبًا”. وفي 11 حزيران (يونيو) 2021، “أطلق الجنود الإسرائيليون النار عليه من بعيد … لم يكن ليشكل أي تهديد لهم”.

وحمايل على دراية وثيقة بالعنف والخسارة اللذين يسودان هذا الجزء من العالم. قبل عقود، قُتل والده وشقيقه وأخته جميعًا في اشتباك مع القوات الإسرائيلية.

ويُزعم أن حمايل، إلى جانبهم، عضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي مجموعة مُصنفة دوليًا على أنها إرهابية مسؤولة عن شن العديد من الهجمات على المدنيين.

ولكن عندما قُتل ابنه محمد، لم يكن المراهق منخرطًا في نزاع مسلح. كان يحتج على بؤرة استيطانية إسرائيلية تدعى “إيفياتار” في موقع يطل على بيتا.

على الرغم من أن قلة من الإسرائيليين يمكنهم تحديد موقع إيفياتار على الخريطة، وعلى الرغم من أن وجودها غير قانوني بموجب القانون الإسرائيلي، فإن هذه المستوطنة الصغيرة مهيأة لأن تلعب دورًا كبيرًا في خطط الحكومة الإسرائيلية الجديدة ومستقبل إسرائيل والضفة الغربية. والسبب في ذلك هو الرياضيات.

يتكون الائتلاف الحاكم الجديد في البلاد من ستة أحزاب حصلت مجتمعة على 48.4 في المائة فقط من الأصوات.

ولكن، بدلاً من تخفيف طموحات التحالف، مكّنت هشاشة هذا الترتيب عناصره الأكثر تطرفاً، لأنها أصبحت ضرورية لاستمرار وجود الحكومة.

ومثلما يتعين على رئيس مجلس النواب الأميركي، كيفين مكارثي، الاعتماد الآن على دعم المتطرفين مثل مارغوري تايلور غرين للحفاظ على موقعه المحفوف بالمخاطر على قمة أغلبية جمهورية ضيقة، يعتمد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على الجناح اليميني المتطرف في ائتلافه للحفاظ على موقفه غير المستقر على قمة السياسية الإسرائيلية.

ولدى هذا الجناح خطط لبيتا وإيفياتار -وهي خطط تهدد بأن يتردد صداها ليذهب أبعد من الجَيبين، وربما تقلب التوازن الهش الذي ظل قائما منذ ما يقرب من عقدين بين إسرائيل والفلسطينيين في جميع أنحاء الضفة الغربية.

ليس الوصول إلى بيتا من القدس بالأمر السهل. ثمة المسافرون الأكثر التزامًا فقط هم الذين يغامرون بالذهاب إلى القرية من إسرائيل، متجاوزين نقاط التفتيش العسكرية وإلى منطقة بها طرق جبلية شديدة الانحدار وخدمة خلوية متقطعة.

لكنني ذهبت إلى هناك في كانون الأول (ديسمبر) لأن ما بدأ في بيتا لن ينتهي هناك.

إذا ما نُظر إليها عن كثب، فإن قصة بيتا تدور حول عدد صغير من الأشخاص الذين تقاطعت حياتهم في مكان واحد على الخريطة. لكننا إذا نظرنا إليها من بعيد، فإن تجربة القرية تعكس أيضًا اتجاهات جيوسياسية أوسع سوف تشكل المنطقة لسنوات قادمة.

ولفهم السبب، يتعين على المرء أن يفهم ما حدث هناك على مدار شهرين في العام 2021.

يُشتق اسم بيتا من الكلمة العربية “بيت”. ولطالما افتخر سكانها بحقيقة أن المستوطنين الإسرائيليين لم يتعدوا قط على الأرض المحيطة بالقرية. لكنَّ ذلك تغير في أيار (مايو) 2021.

في الرد على مقتل طالب إسرائيلي يبلغ من العمر 19 عامًا على يد مهاجم فلسطيني في محطة حافلات قريبة، أقامت حفنة من العائلات اليهودية بؤرة استيطانية مؤقتة على قمة التل بجوار بيتا.

وأطلقوا عليها اسم “إيفياتار”، على اسم إسرائيلي آخر، إيفياتار بوروفسكي، الذي كان قد قُتل في نفس تقاطع الحافلات في العام 2013.

وكان المستوطنون الإسرائيليون قد حاولوا البناء في هذا المكان من قبل –في الأعوام 2013 و2016 و2018- ولكن، في كل مرة قامت السلطات على الفور بتفكيك الهياكل المُقامة بطريقة غير مشروعة وطرد سكانها.

وهذه المرة، مع رغبة نتنياهو اليائسة في إبقاء أقصى اليمين في ركنه بينما يواجه انتخابات متكررة ومحاكمة بتهم فساد، ترددت الحكومة الإسرائيلية.

لكنّ سكان بيتا لم يفعلوا. خوفًا مما قد يحدث إذا أصبحت البؤرة الاستيطانية دائمة، نظموا احتجاجات لا هوادة فيها ضدها. كل مساء، كان المشاركون يحرقون الإطارات المطاطية حتى يطير الدخان المتصاعد إلى داخل المستوطنة.

وقاموا بتشغيل الموسيقى الصاخبة، وإطلاق الألعاب النارية، وإلقاء الحجارة، وتوجيه مؤشرات الليزر على المباني لإقلاق نوم السكان، وسعوا بشكل عام إلى جعل الحياة بائسة لسكان إيفياتار.

كما نصبوا وأحرقوا دمية لصليب معقوف داخل نجمة داود. وأكد المشاركون الذين قابلتهم أنه لم يتم إطلاق رصاصة واحدة خلال هذه المظاهرات، وهو ادعاء تدعمه روايات وسائل الإعلام التي واكبت الأحداث.

لكن هناك أشكالا من العنف لا تشمل الأسلحة النارية، بما في ذلك المتفجرات والقنابل الحارقة، وهي الطريقة التي ستُحرَق بها المستوطنة فيما بعد. وقد تم إرسال الجيش الإسرائيلي بسرعة للفصل بين المتظاهرين الفلسطينيين ومجموعة صغيرة من المستوطنين.

بعد بضعة أسابيع، لقي عدد من سكان القرية مصرعهم بالرصاص الإسرائيلي وأصيب مئات آخرون في اشتباكات مع الجنود. وكان من بين القتلى محمد حمايل.

ولكن، على الرغم من هذه الخسائر -أو ربما بسببها- استمرت الاحتجاجات.

في حزيران (يونيو) 2021، تولى ائتلاف جديد مناهض لنتنياهو ومكوّن من اليهود والعرب السلطة في إسرائيل. وفي تموز (يوليو)، فعلوا ما لم يفعله نتنياهو وأخلوا البؤرة الاستيطانية، مع ترك مبانيها سليمة.

وكجزء من حل وسط مكّن المستوطنين من حفظ ماء الوجه والمغادرة بهدوء، اقترحت السلطات الإسرائيلية آنذاك أن السكان ربما يعودون في نهاية المطاف في وقت غير محدد في المستقبل.

لكنهم لم يفعلوا في ظل الحكومة الإسرائيلية القديمة ذلك قط. بعد كل شيء، لم تكن هناك فائدة لإسرائيل من وضع جنودها كل مساء في مواجهة مع الفلسطينيين الغاضبين بسبب بؤرة استيطانية صغيرة تعتبرها إسرائيل نفسها غير شرعية.

والآن، بعد عام ونصف، ما تزال الجراح مفتوحة. تصر السلطات الإسرائيلية على أن المسيرات الليلية في بيتا هي أعمال شغب وبعيدة عن اللاعنف.

وما يزال القرويون يحزنون على أولئك الذين فقدوهم ويقدِّرونهم؛ وتصطف اللوحات الجدارية التي تخلد ذكرى أحبائهم الذين قتلوا خلال المظاهرات في الشوارع.

ولكن، بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة، ثمة شيء واحد مؤكد: لو لم تكن إيفياتار هناك، لما كانت هناك احتجاجات، ولكان ابن سعيد حمايل ما يزال على قيد الحياة.

هذا هو سبب أهمية بيتا وإيفياتار: يرى كل من حركة الاستيطان الإسرائيلية وخصومها الفلسطينيين الصراع على هذا الشريط الصغير من الأرض نموذجًا لمستقبل المنطقة بأكملها -وإنما لأسباب مختلفة تمامًا.

بالنسبة للمستوطنين، قد تكون إيفياتار غير شرعية، لكن وجودها ليس مصادفة.

إنها جزء من جهد متعمد لتقسيم منطقة نابلس، كمركز تجاري وثقافي في الضفة الغربية، ومنع إمكانية قيام دولة فلسطينية متصلة الأرجاء.

ويمكن للمرء أن يرى هذا بوضوح على الخريطة: تُكمل إيفياتار دائرة من المستوطنات التي تتخلل المنطقة.

وتعلن صفحة إيفياتار الخاصة على “فيسبوك” صراحةً عن نية البؤرة الاستيطانية “تعطيل التواصل بين قبلان، ويتما، وبيتا”، وهي ثلاث قرى فلسطينية.

ويشترك في هذه الرغبة أصحاب النفوذ في الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي تتضمن اتفاقياتها الائتلافية التزامًا بإعادة إسكان إيفياتار.

ليست اتفاقيات الائتلاف الإسرائيلية، مثلها مثل برامج الأحزاب السياسية الأميركية، ملزمة قانونا وغالبا ما يتم الالتزام بها في حالة عدم حدوث خلاف.

لكن الوزراء الإسرائيليين اليمينيين الجدد المتطرفين، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتامار بن غفير، لديهم علاقات شخصية عميقة مع أفراد لديهم مخططات يريدون تنفيذها في أكثر المناطق إثارةً في الضفة الغربية -لا سيما تلك البؤر الاستيطانية التي اعتبرتها السلطات الإسرائيلية غير قانونية.

حتى انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر)، كان الأشخاص الذين يسعون إلى الاستيطان في أماكن مثل إيفياتار ينتهكون القانون من الهومش.

لكنهم أصبحوا الآن مشرّعين. ولا تعني حقيقة أن القليل من الإسرائيليين سمعوا عن هذه المناطق أن هذه الحكومة الجديدة لن تنفق رأس المال السياسي عليها.

وهذا لا يعني أن إعادة استيطان هذه البؤر الاستيطانية لن يشعل جولة أخرى من الاشتباكات الإسرائيلية الفلسطينية.

قد يظن المرء أن إعادة إحياء إيفياتار سيشكل كارثة لبيتا، لكن هذا ليس تمامًا ما يراه المحتجون الذين تحدثت معهم.

بالنسبة لهم، سيكون ذلك فرصة أيضًا -فرصة لتحويل بيتا إلى منارة للتحدي وأيقونة تتمثل بها بقية الضفة الغربية.
جالسًا في غرفة جلوس مجدي حمايل (ليست له علاقة مباشرة بسعيد حمايل)، وهو ناشط فلسطيني محلي ومحلل سياسي قضى 12 عامًا في سجن إسرائيلي، سألتُ عما سيحدث إذا عاد سكان إيفياتار.

وأجاب بينما كان الأطفال يدخلون ويخرجون من الغرفة: “إذا دخل مستوطن واحد البؤرة الاستيطانية، في تلك اللحظة، ستجد بيتا كلها تسير إلى الجبل مرة أخرى”.

قال أن إسرائيل أزالت المستوطنين لأنها خشيت أن يستلهم الآخرون في الضفة الغربية احتجاجات بيتا الشعبية. ولن يؤدي عكس المسار سوى إلى عودة المظاهرات أقوى مما كانت. “سوف ترى إعادة تجسيد للتجربة نفسها التي كان الاحتلال نفسه قلقًا للغاية من انتشارها، لدرجة أن الجيش الإسرائيلي قام بترحيل المستوطنين في المقام الأول”.

بكلمات أخرى، إذا كانت إيفياتار تمثل طموحات ممكنة للحركة الاستيطانية الإسرائيلية، فإن احتجاجات بيتا ضدها تشكل رد فعل معارضة فلسطينية متصاعدة.

ولا يبدو أن هذه المعارضة تشبه أي شيء كان من قبل. وتعكس الأنشطة العضوية المناهضة للاحتلال في القرية -غير المرتبطة بأي حركة أو فصيل سياسي- الانهيار البطيء للسلطة الفلسطينية التي كان يتوقع منها أن تقود مثل هذه الجهود، لكنَّ تآكلها السريع ترك فراغًا يتم ملؤه بالاضطرابات والعنف.

قال لي مجدي حمايل: “ما يحدث الآن هو أن القرار الفلسطيني أصبح بيد المقاومة وليس بيد السلطة”. والسؤال هو ما إذا كان الاحتلال جاهزاً لزعزعة الاستقرار التي تنتظرنا الآن”.

بلغ محمود عباس، زعيم السلطة الفلسطينية، 87 عامًا في تشرين الثاني (نوفمبر)، وبدأ مؤخرًا السنة الثامنة عشرة من ولايته الرئاسية التي كان يفترض أن تكون أربع سنوات.

ويُنظر إليه على نطاق واسع على أنه فاسد، إلا أنه ما يزال في السلطة بسبب قمعه للمنتقدين، والسيطرة على سلاسل أموال السلطة الكبيرة، وعلاقاته مع المجتمع الدولي.

لكن عباس أصيب في السنوات الأخيرة بعدة وعكات صحية، واختفى عن الأنظار بسببها لفترات طويلة.

وبينما أصبح رحيله عن المشهد مسألة وقت فقط، بدأ الكثيرون بالفعل في التنافس على النفوذ في عالم ما بعد عباس.
في الأثناء، ظهرت ميليشيات جديدة من الشباب الفلسطيني وتحدت سلطة قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، في حين كثفت الجماعات المسلحة القديمة التي تتراوح من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين العلمانية، إلى حركة الجهاد الإسلامي الإسلامية، أنشطتها.

وكانت النتيجة اندلاع مواجهات عنيفة شبه يومية مع القوات الإسرائيلية، من جنين إلى نابلس. في أواخر الشهر الماضي، قُتل تسعة فلسطينيين خلال معركة بالأسلحة النارية بين نشطاء من “الجهاد الإسلامي” وقوات الكوماندوز الإسرائيلية في جنين، وهو ما أدى إلى إطلاق وابل من الصواريخ من غزة.

وفي اليوم التالي، فتح فلسطيني من القدس الشرقية النار بالقرب من كنيس يهودي محلي، مما أسفر عن مقتل سبعة إسرائيليين عشية يوم السبت.

ومع استمرار انحسار نفوذ السلطة الفلسطينية وأهميتها، يتصاعد العنف.

في الحقيقة، إذا كان ثمة شيء واحد يتفق عليه العديد من الفلسطينيين واليمين الإسرائيلي المتطرف الصاعد، فهو أن السلطة الفلسطينية يجب أن تذهب.

وقد صرح سموتريتش، النائب المؤيد للمستوطنين في الكنيست، في مؤتمر صحفي عقد في كانون الثاني (يناير) وأعُلن فيه عن فرض عقوبات اقتصادية على المنظمة: “طالما أن السلطة الفلسطينية تشجع الإرهاب وأنها عدو، فليست لدي مصلحة في استمرارها”.

وقال المحلل السياسي مجدي حمايل: “من الواضح أن السلطة الفلسطينية تطبق مصالح إسرائيل، ليس فقط من خلال التنسيق الأمني، ولكن أيضًا من خلال إحباط جهود المقاومة”.

وقد أصبحت متاعب السلطة الفلسطينية واضحة لدرجة أنه في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، تم تسجيل حديث لحسين الشيخ، الأمين العام لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو ينتقد فشل عباس في إدارة عملية الانتقال من قيادته.

وكانت قرية بيتا متقدمة على المنحنى في رفضها للسلطة الفلسطينية. على مدى عقود، كانت السلطة الفلسطينية هي التي تعين رئيس البلدية.

لكن القرية أجرت في العام 2005 انتخاباتها الأولى الخاصة، وفاز فيها مرشح “حماس” المنافس. وأثبتت النتيجة أنها كانت نذيرًا بنتيجة الانتخابات الوطنية الفلسطينية في العام التالي، التي ألحقت فيها “حماس” الهزيمة بـ”فتح” التي يتزعمها عباس، مما عجل في نهاية المطاف بالانقسام الحالي بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

واليوم، يأمل البعض في القرية أن يخدموا مرة أخرى كطليعة -هذه المرة في تحدي حكومة إسرائيل الجديدة وصياغة رد من شأنه أن يشعل ثورة في الضفة الغربية.

قال سعيد حمايل، والد الابن المقتول، بينما نجلس حول النار في تلك الليلة: “الثمن سيكون باهظًا للغاية. وليس علينا نحن فقط”.

الغد