قال الدكتور #حسن_الترابي، إن زميلاً له في مدرسة حنتوب الثانوية سعى لتجنيده في الحزب الشيوعي. ومن ضمن ما روج به لدعوته قوله عن انقسام العالم إلى معسكرين وهما معسكر #الرأسمالية والحرب بقيادة #أميركا ومعسكر #الاشتراكية والسلم بقيادة #الاتحاد_السوفياتي. ورد عليه الترابي:
-وأين موقعنا نحن في هذه الجغرافيا السياسية؟
وبدا أننا بحاجة إلى سؤال الترابي النبيه في زحام أميركا وروسيا منافسة على السودان، أو ما سماه أحدهم “معركة كسر العظم” بينهما، وعلى أفريقيا عامة.
فتزامنت زيارة وفد أوروبي – أميركي في التاسع من فبراير (شباط) الجاري للسودان مع زيارة سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي له. واختتم الوفد الأوروبي – الأميركي الزيارة بتأكيد بيتر لورد، مساعد وزير الخارجية الأميركية، دعمهم للاتفاق الإطاري الذي تم التوصل إليه بين “قوى الحرية والتغيير” (المركزي) وحلفاء له مع العسكريين بوساطة أممية وغربية وأفريقية لقيام حكومة مدنية خالصة لاستكمال الانتقال الديمقراطي.
ودعم لافروف في مؤتمر صحافي مساعي السودان لرفع العقوبات الأميركية والدولية المفروضة عليه بعد انقلاب العسكريين في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، على الحكومة الانتقالية التي تكونت بعد ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. وقال لافروف إنه بحث مع حكومة السودان القاعدة الروسية على البحر الأحمر التي صادقت لهم عليها “حكومة الإنقاذ” بعد زيارة عمر حسن أحمد البشير إلى روسيا في عام 2014. وقال البشير يومها من فرط عزلته من جانب الغرب وحصاره له “إن السودان سيكون مفتاح روسيا إلى أفريقيا”.
لا يخفى على أحد أن أفريقيا تدخل في ذيول حرب أوكرانيا طورها الثالث مما عرف بـ”التكالب” عليها من أوروبا وأميركا. كان الطور الأول هو اقتسام أفريقيا في النصف الثاني من القرن الـ19. وانعقد مؤتمر برلين في عام 1885 ليضع قواعد لعبة ذلك الاقتسام حتى لا تؤدي نزاعاته إلى حرب أوروبية. وكانت الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي هي الطور الثاني من هذا التكالب. وجاء الآن التكالب المشاهد في ذيل الحرب الروسية على أوكرانيا.
تعرض روسيا نفسها لأفريقيا الآن كحليف ضد الغرب بسابقته المعروفة في استرقاق أهلها واستعمارها. وتروج لقبول أفريقيا لها بهذه الصفة بما سماهم أحدهم “دبلوماسية الذاكرة”، أي شهادة التاريخ على حسن سيرها وسلوكها حيال أفريقيا. فخلافاً لأوروبا خلت صفحة روسيا من إثم الرق الأفريقي. كما تذيع سابقتها، ممثلة بالاتحاد السوفياتي، في الوقفة مع نضالات القارة السمراء للتحرر من الاستعمار الأوروبي. وتعرض حتى حربها على أوكرانيا اليوم كتحرير للروس من رعاياها وتحرير أوكرانيا نفسها من براثن الغرب.
وتجد عروض روسيا هذه منبراً في شبكة “الإسفير الروسي” الموجه إلى أفريقيا الذي حصد 80 ألف متابع. وتتغذى من سقم تجرعه كثير من الأفريقيين في مثل مالي وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر وموريتانيا من فرنسا التي تتلكأ في دعم معركتهم ضد الحركات المتشددة التي ضربت بلادهم. وبلغوا من هذا السقم حد رفع العلم الروسي في احتجاجاتهم أمام السفارات الفرنسية.
وتنتهز صفوة أفريقية في محنة الحكم سانحة هذا العرض الروسي لتثبيت سلطانها. فجنحت الكاميرون أخيراً من صف الغرب إلى صف روسيا. فقد أثقل عليها الغرب باعتبارات حقوق الإنسان وهي في حرب ضروس ضد تشدد “بوكو حرام” وثوار منطقة الكاميرون التي كانت تحت الاستعمار الإنجليزي. وتوقفت أميركا عن دعم للكاميرون بالنظر إلى خروقها لحقوق الإنسان في هذه الحرب.
وجاءت حرب أوكرانيا لروسيا بـ”دبلوماسية ذاكرة” مضادة. فإن عرضت لأفريقيا تاريخاً خلا مما يشينها مع القارة، نبش خصومها سيرة استعمارها المسكوت عنه. فأميركا، في قول هؤلاء الكتاب، لا تستنفد كل ظلم للإنسان لأخيه الإنسان. فذكّروا روسيا باستعمارها المهين لشعب البرويات وغيره في سيبيريا منذ عام 1600. كما ذكروا لها استعمارها لشعوب في القوقاز في مثل داغستان وشعب الطوران حتى إن الرئيس الأوكراني زيلينسكي ذكّر الروس أخيراً بغزوهم للقرم وكيف جرعهم شاميل، قائد مسلمي القرم، غصص الهزيمة في ثلاثينيات القرن الـ19.
ونوه أحدهم بحقيقة أن روسيا لم تفقد إمبراطوريتها بعد الحرب العالمية الأولى كما حدث لتركيا العثمانية والنمسا-هنغاريا. فاسترد الاتحاد السوفياتي لروسيا الوريثة، الدول التي استقلت عنها بعد الثورة البلشفية في عام 1917. فأعادت روسيا إلى حظيرتها كلاً من أوكرانيا وبيلاروس وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان، ناهيك باستبدال ستالين لسكان جزيرة القرم بآخرين روس وتغييرات ديموغرافية أخرى كثيرة. وفي حين تحررت معظم المستعمرات الغربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بقيت مستعمرات روسيا، على حد قول الكاتب والناشط الروسي ألكسي كوفاليف، حتى انهيار الاتحاد السوفياتي. ولم تستسلم روسيا مع ذلك. فاستردت الشيشان وتحارب اليوم أوكرانيا، التي تنفي العقيدة الوطنية الروسية أنها كانت في أي يوم من تاريخها غير جزء من روسيا.
وكل مطلع على تاريخ الاستعمار الأوروبي لأفريقيا سيجد أن روسيا قد تمثل الآن أقبح وجوهه قاطبة. فتعيد استثمارات مرتزقة فاغنر الروسي، ذكرى شركات الامتيازات التي كانت كلفتها دول أوروبية استعمارية، في أول عهد استعمارها، أن تدير مستعمراتها نيابة عنها، فتطلق يدها بذلك في موارد المستعمرة وسكانها لقاء جعالة مالية تدفعها الشركة لخزينة تلك الدولة. وبلغت تلك الشركات من فرط الاستغلال والفظاظة حداً استفز كثيرين من الأوروبيين. ونجح أولئك أخيراً في حظر وكالتها عن الدولة المستعمرة بالكلية. وشكلت الكونغو، المستعمرة الشخصية للملك ليوبولد الثاني، ملك البلجيك، معرضاً فاضحاً لممارسات تلك الشركات وجشعها حتى كتب مارك توين كتابه “محادثة الملك ليوبولد لنفسه” الذي يدور حول بشاعتها.
وتعيد “فاغنر” بمحاربتها خصوم حكومات أفريقية مثل حكومة أفريقيا الوسطى أو من خلال تدريب جنودها على مثل تلك الحرب، واقعة استعمارية مؤسفة معروفة بـ”الإخضاع” بعد الغزوة الأولى للمستعمرة. فبعد غزو الدولة الأوروبية لموطن أفريقي تبقى تتربص بكل مقاوم لها فتسحقه سحقاً. فضرب الإنجليز مثلاً، قطيع أبقار شعب النوير في السودان، من الجو بالقنابل في عام 1920 لتجويعه وإنهاء تمرده فإخضاعه لإرادتهم.
إذا كانت روسيا قد تغيرت كثيراً وللأسوأ في قول أحدهم، فأميركا، في قول آخر، لم تتغير. فلها نازعها الوصائي، إن لم نقل الاستعماري، على عرضها لنفسها كسادن الديمقراطية ورفيق الماشي في دروبها. فلم يَحُل عقدها لمؤتمر قمة للديمقراطية في أفريقيا ديسمبر (كانون الأول) 2021، الذي استدبرت به إهمال إدارة الرئيس دونالد ترمب للقارة، من أن تصدر قانوناً بالأمر العالي للحكومات الأفريقية في ذيول حرب روسيا على أوكرانيا هو قانون “مكافحة نشاطات روسيا الضارة في أفريقيا” أبريل (نيسان) 2021. والقانون صريح في القول إن على أفريقيا أن تختار بين أن تعمل مع العالم الحر أو مع مجرمي الحرب الروس. وعرّف القانون النشاطات الضارة هذه بالعمل لتخريب أهداف الولايات المتحدة ومصالحها، والتعدي على موارد الإنسان الأفريقي وحقوقه الإنسانية كما تفعل عصبة فاغنر الروسية، وخرق المقاطعة لروسيا وتمويل الحرب في أوكرانيا. وسيطال القانون حكومات القارة إن خرقت حدود أميركا. وبدا القانون كرد فعل على سلبية نسبية في تصويت دول القارة في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا (27 مع القرار، 17 ممتنعاً عن التصويت أو غائباً، وصوت واحد ضده). وعليه فهو سيق بالعصا من دون مزاعم أميركا بالديمقراطية.
وأوروبا والغرب في طورهما الثالث في التكالب على أفريقيا، نعود هنا لكلمة الترابي عن موقعنا المستقل من هذه المنافسة في استقطابنا لطرف من دون الآخر. ويأتي هذا الطور وصفوة الحكم في أفريقيا قد بلغ بها الإنهاك والاستقطاب حداً قال به ألكس دي وال، الخبير في الشأن السوداني، منذ أكثر من عقد “إن الطاقة وراء السياسة السودانية هي الغضب”. وما الذي تنتظره لبلد محرك طاقته الوحيد هو الغضب؟ وصارت هذه الصفوات من فرط الإنهاك عالة على الأوصياء من حيث جاءوا طالما كانوا على هواها السياسي. فخف في هذه الصفوات الحاكمة وازع وطنية الجيل الأول كما ضعف عاصم عدم انحياز الجيل الثاني. فاتصفت هذه الفئة اليوم بنوستالجيا للاستعمار الذي أوجدها هي نفسها أول مرة. وترى في عهده، حين تقارنه بالخرائب التي انتهت إليها في كثير من بلادها، عهداً ذهبياً. فتجد من يكتب “سودانيون وإنجليز: الوجه الإنساني للعلاقة التاريخية” مثلاً عن شيم الإنجليز الغراء فينا. وهو الكتاب الثالث إحصاء عن إنسانية الإنجليز في العقود الأخيرة.
إذا صحت القراءة من توزع الصفوة السودانية الحاد اليوم بين تعلق بالوساطة الغربية ومعاد لها روسي الهوى فلربما كنا أبعد ما نكون الآن بعد نحو 75 عاماً من المقعد المستقل الذي طلبه لنا الترابي من صراع الغرب والشرق من حولنا.
اندبندت عربي