ليست فقط حركة السلام الألمانية التي لم تقم لها قائمة خلال العام الذي انقضى من الحرب الروسية-الأوكرانية، بل هي أيضا جميع حركات السلام الأوروبية التي انزوت جماهيريا وسياسيا على وقع توجه الحكومات والمعارضات نحو الإدانة الكاملة لروسيا والمساعدة العسكرية الشاملة لأوكرانيا. بل أن الانزواء الجماهيري والسياسي لحركات السلام الأوروبية بلغ حد عدم حدوث مظاهرة حاشدة واحدة ضد الحرب في العواصم والمدن ذات الإرث السلمي في رفض التدخلات العسكرية.
وأمر الإرث السلمي والباع التاريخي لعواصم ومدن أوروبية يتجاوز حروب العقدين الفائتين من القرن الحادي والعشرين، ويشمل جل ما حدث في القارة العجوز بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها (1945) وأخذ الصراع العالمي بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي نمطا جديدا من المواجهات غير المباشرة والصراعات عبر الوكلاء أطلق عليه الحرب الباردة.
فبين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة بانهيار المعسكر الشرقي في بدايات تسعينيات القرن العشرين، اختفت الحروب واسعة النطاق من الأراضي الأوروبية ولم يتورط المعسكران الغربي والشرقي في مواجهات مباشرة على الرغم من تلامس حدودهما في ألمانيا التي كانت مقسمة بين غربية وشرقية.
في النصف الثاني من القرن العشرين وقبل أن يسقط الاتحاد السوفييتي في 1991، لم تحدث غير سلسلة حروب محدودة النطاق وتوترات حدودية بين اليونان وتركيا في الستينيات والسبعينيات وتدخل الجيش السوفييتي عسكريا مرتين لقمع انتفاضات سلمية في المجر (1956) وتشيكوسلوفاكيا السابقة (1968). وقد كان في الغياب شبه الكامل للحروب عن القارة العجوز دليل نجاح لسياسات القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وحكومات الدول الأوروبية التي دارت في فلكهما العسكري، هنا في حلف شمال الأطلسي وهناك في حلف وارسو. غير أن غياب الحروب كان أيضا دليل نجاح لحركات السلام التي تطورت في غرب القارة وشرقها كما في شمالها وجنوبها للحيلولة دون عودة الدماء والدمار والتهجير واللجوء بعد حربين عالميتين.
ولحركات السلام الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين حكاية تستحق أن تروى، وإرث وباع ينبغي الاحتفاء بهما لكي ندرك التداعيات الكارثية للانزواء الراهن لرافضي الحروب. فما أن استقرت بحلول خمسينيات القرن العشرين الخطوط العريضة لأوضاع القارة الأوروبية وباتت عضوية بلدانها المختلفة في المعسكرين الغربي والشرقي مقبولة عالميا مثلما أضحى حياد سويسرا مقبولا من واشنطن وموسكو ومتعارفا عليه عالميا، إلا وتبلور توجه شعبي كاسح نحو السلام والأمن خوفا من انفلات الحرب الباردة بين المعسكرين باتجاه حرب ساخنة كانت أخطارها مرعبة. فالولايات المتحدة، وبعد أن ألقت قنبلتيها الذريتين على اليابان (هيروشيما ونغازاكي) واصلت تطوير قدراتها النووية ولم يتخلف الاتحاد السوفييتي عن اللحاق بها بتفجير قنبلته الذرية الأولى في 1949. وكانت النتيجة الحتمية سباق تسلح نووي بالغ الخطورة لم يكن ليبتعد دماره عن القارة العجوز حال فقدان السيطرة عليه، وكانت النتيجة الحتمية وعي الأوروبيين بضرورة التعبئة السلمية رفضا لعودة الحروب والصراعات. وحين حاصرت في صيف 1948، وفي لحظة توتر بين المعسكرين الغربي والشرقي، القوات السوفييتية المتواجدة في ألمانيا الشرقية برلين الغربية وقطعت عن سكانها طرق الإمدادات البرية والمائية وأقامت الدول الغربية جسرا جويا للتغلب على الحصار وإنقاذ الناس من خطر نفاذ الغذاء والدواء، خرجت تظاهرات الأوروبيين في عواصم ومدن مختلفة للمطالبة برفع الحصار وإنهاء «أزمة برلين الأولى» سلميا.
فيما وراء غزو العراق، تراجعت حركات السلام الأوروبية شعبيا وسياسيا تدريجيا. غير أن تأثيرها لم يغب تماما. ودوما ما استجابت الحكومات الأوروبية الكبرى لداعي التفاوض والسلام كما فعل الفرنسيون والألمان في اتفاقيات مينسك 2014 التي أنهت أزمة شبه جزيرة القرم بين روسيا وأوكرانيا
وتكررت مظاهرات السلام ورفض التدخلات العسكرية وشبح الحروب حين تدخل الجيش السوفييتي في المجر 1955 لقمع انتفاضة ديمقراطية وفي تشيكوسلوفاكيا السابقة 1968 لذات السبب. وبين الانتفاضتين وعندما حدثت الأزمة الكوبية 1962، شهدت عواصم ومدن أوروبية كباريس وبرلين وفيينا، وقبل أن تنزع واشنطن وموسكو فتيل الأزمة، مظاهرات شعبية منددة بالتصعيد وداعية للسلام. بين الانتفاضتين المجرية والتشيكوسلوفاكية أيضا، ضغطت حركات السلام الأوروبية على حكومات المعسكر الغربي المندرجة آنذاك في «السوق الأوروبية المشتركة» للانفتاح على الشرق والابتعاد عن معاداة الاتحاد السوفييتي والبحث عن سياسات للتعاون الاقتصادي والتجاري عوضا عن سباقات تسلح نووية وتقليدية تستنزف ثروات البلدان وطاقات الشعوب. وجاءت الاختراقات الأولى لما كان يسمى الستار الحديدي الفاصل بين الغرب والشرق من دول كإيطاليا والنمسا، ثم تبعتهما ألمانيا الغربية التي تجاوزت انقساماتها الداخلية لتنفتح على ألمانيا الشرقية وعلى دول المعسكر الشرقي.
وفي سبعينيات القرن العشرين، نجحت دول غرب وشرق وشمال وجنوب القارة العجوز وفي سياق فاعلية مجتمعية وسياسية لحركات السلام في تجاوز انقساماتها وتأسيس منظمة «الأمن والتعاون في أوروبا» (مؤتمر هلسنكي 1975) التي اضطلعت بأدوار بالغة الأهمية في احتواء نزاعات وصراعات الأوروبيين وتشجيع اعتماد الحلول السلمية والحد من سباقات التسلح. وفي ثمانينيات القرن العشرين، تصاعدت مجددا صراعات القوتين العظميين على الأراضي الأوروبية حين أقدم الاتحاد السوفييتي على نشر منظومات صواريخ نووية وردت الولايات المتحدة بنشر مضاد لمنظومات صواريخ نووية، وكانت الألمانيتان هما مسرح الانتشار النووي الذي استتبعته مظاهرات شعبية حاشدة للأوروبيين رفضا للتصعيد.
ومن رحم مظاهرات رفض الانتشار النووي في الثمانينيات ولدت حركات السلام الأوروبية المعاصرة والتي اتجه بعضها إلى المشاركة المباشرة في الحياة السياسية من خلال تأسيس أحزاب جديدة، كما كان الحال فيما خص أحزاب الخضر التي ضمت حركات السلام وحركات الدفاع عن البيئة وحركات اليسار الشبابية. من رحم مظاهرات رفض الانتشار النووي ولدت مبادرات للتنسيق السياسي بين المجتمع المدني في غرب وشرق أوروبا، وهي المبادرات التي أسهمت، من بين عوامل أخرى، في التحولات الديمقراطية لبلدان شرق ووسط أوروبا في تسعينيات القرن العشرين. وبضغط من مظاهرات رفض الانتشار النووي، انفتحت واشنطن وموسكو على مفاوضات جادة ثم معاهدات حقيقية للحد من التسلح والانتشار النوويين على الأراضي الأوروبية وعالميا قبل أن يسقط المعسكر الشرقي ويزول حلف وارسو وينهار الاتحاد السوفييتي في 1991.
وبعد الانهيار وانتهاء الحرب الباردة، انفجرت الحروب الأهلية والحروب الانفصالية في عدة بلدان أوروبية كان أكثرها دمويا وعنفا حروب يوغسلافيا السابقة والتي تورطت بها عسكريا الولايات المتحدة ودول أوروبية من أعضاء حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من الجرائم ضد الإنسانية التي شهدتها حروب يوغسلافيا والفظائع التي ارتكبت ضد المدنيين خاصة في مناطق البوسنة والهرسك وإقليم كوسوفو، إلا أن حركات السلام الأوروبية نشطت للمطالبة بامتناع حكوماتها عن التورط العسكري ودعوتها إلى عدم الاستخفاف بالحرب والبحث عن حلول تفاوضية وسلمية عوضا عن الغارات الجوية. في النصف الثاني من التسعينيات، تظاهرت حركات السلام في برلين ولندن وباريس وفيينا رفضا للتورط العسكري لحلف شمال الأطلسي في حروب يوغسلافيا.
غير أن النقطة الأعلى شعبيا وسياسيا لحركات السلام الأوروبية في عقود ما بعد انتهاء الحرب الباردة جاءت مرتبطة بالغزو الأمريكي-البريطاني للعراق في 2003. تعاطف الأوروبيون مع الشعب الأمريكي بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولم تقابل الحملة العسكرية على أفغانستان للقضاء على تنظيم القاعدة وحركة طالبان بمعارضة شعبية أوروبية. إلا أن خطط غزو العراق الذي حلت عشرينيته السوداء قبل أيام قليلة واجهه الأوروبيون برفض شعبي كاسح وبانقسام سياسي بين بريطانيا المؤيدة وبعض دول أوروبا الشرقية التي أيدت أيضا وبين الرفض الفرنسي والألماني الصريح. وفيما خص حركات السلام، كان الرفض الشعبي هو العنصر الأهم. في 2003، شهدت لندن المظاهرة الأكبر في التاريخ البريطاني رفضا لغزو العراق الذي شاركت فيه حكومة رئيس الوزراء توني بلير. في 2003، شهدت كافة العواصم والمدن الأوروبية الكبرى فاعليات حاشدة رفضا للغزو ومطالبة بوقف الجنون الانتقامي للإدارة الأمريكية آنذاك، إدارة جورج دبليو بوش. شعبيا وسياسيا، صاغت حركات السلام الأوروبية مواقف بلادها من الغزو مرتبة إما الرفض وعدم التورط أو ضاغطة بقوة لإنهاء التورط وإسقاط الحكومات التي وافقت عليه.
فيما وراء غزو العراق، تراجعت حركات السلام الأوروبية شعبيا وسياسيا تدريجيا. غير أن تأثيرها لم يغب تماما. ودوما ما استجابت الحكومات الأوروبية الكبرى لداعي التفاوض والسلام كما فعل الفرنسيون والألمان في اتفاقيات مينسك 2014 التي أنهت أزمة شبه جزيرة القرم بين روسيا وأوكرانيا.
إلا أن شهادة وفاة حركات السلام الأوروبية ما لبثت أن جاءت في سياق الحرب الروسية ـ الأوكرانية 2022 محمولة على ظهر قرارات الحكومات بإرسال الأسلحة الألمانية والفرنسية والبريطانية إلى ساحات القتال وفرض العقوبات الغربية ضد روسيا والامتناع عن الخروج بمبادرة جادة واحدة للتفاوض والحل السلمي بين الطرفين المتحاربين ورفع موازنات الجيوش، وهي تلك القرارات الأوروبية التي لم تقابلها لا تحركات جماهيرية ترفضها ولا قوى سياسية تطالب بالتعقل وعدم الاستخفاف بالحروب. ليست فقط حركة السلام الألمانية هي التي جاء نبأ وفاتها، بل جل حركات السلام الأوروبية. وفي هذا ضرر تاريخي على أوروبا ومجتمعاتها وشعوبها لو يعلمون عظيم.
القدس العربي