المعارضة تتفكك عندما تكون في ذروة الزخم، هذا كليشيه إسرائيلي. ولكن مع بالغ السرور والمودة، تبين أن إسرائيل ليست وحدها. فبعد أن تحول النظام في تركيا إلى نموذج للتقليد، أو على الأقل مقياساً للمقارنة بين زعماء الدولتين، تظهر المعارضة في تركيا الآن بأنها أخت لنظيرتها الإسرائيلية. الجمعة الماضي، أعلنت رئيسة حزب “الخير” (الجيد)، ميرال أكشنار، عن انسحابها من كتلة المعارضة التي تشمل ستة أحزاب، لأنها غير مستعدة لتأييد كمال كليتشدار أوغلو كمرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية.
يبدو أن النجوم تم ترتيبها بشكل مثالي لسياسيين يأملون منذ عقدين في إقصاء رجب طيب أردوغان عن القصر. الأزمة الاقتصادية التي بدأت في 2018 أضرت بكل القطاعات، والليرة التركية فقدت عشرات النسب المئوية من قيمتها، وأسعار السلع الأساسية ارتفعت بشكل كبير، والتضخم الذي وصل الذروة في تشرين الأول الماضي، 85.5 في المئة وهو الآن 55 في المئة فقط، عمل على تآكل قوة الشراء، ومليارات الدولارات غادرت الدولة، وأسعار الوقود ومنتجات الطاقة ارتفعت بشكل كبير، وفي الزلزال الذي ضرب في شباط الماضي توفي نحو 45 ألف شخص، وهذا رقم غير نهائي حتى الآن، وملايين الأشخاص فقدوا بيوتهم. اعتبر أردوغان المسؤول الرئيسي عن حجم الدمار الذي خلفته الكارثة، لأن حكومته لم تهتم بالرقابة كما هو مطلوب على نوعية البناء وتطبيق قوانين البناء التي تشمل الحماية من الهزات الأرضية. وإن تعهده ببناء مليون وحدة سكنية لمن دمرت بيوتهم خلال سنة، يستقبل بعدم الثقة. أعمال الترميم لم تبدأ بعد بشكل جدي، وطلبه، “إظهار الصبر” لأن الأمر يتعلق بـ “برنامج مصيري”، إنما يضيف إلى موجة الغضب المكبوتة في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية.
قرر أردوغان قبل الزلزال تبكير موعد الانتخابات إلى أيار بدلاً من الموعد الأصلي، منتصف حزيران، وهي خطوة استهدفت زرع التشويش في المعارضة، مع تقصير الفترة الزمنية التي يمكنها تنظيم نفسها فيها. بعد الهزة الأرضية، كان في حزبه من طلبوا تأجيل الانتخابات لبضعة أشهر وحتى لسنة. أدرك أعضاء الحزب أن كارثة شديدة جداً ستسبب أضراراً سياسية كبيرة، وقد تحرم اردوغان من الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة وتحويله من زعيم خالد إلى زعيم مهزوم. يبدو أن حسابات أردوغان، السياسي الموهوب والمحنك والحاكم المطلق في الدولة، تفككت مع الهزة الأرضية.
هذه الظروف وزعت الأوراق الأفضل للمعارضة، لكن -مثلما في إسرائيل- المعارضة ليست كتلة متجانسة تسود بين أعضائها علاقة صداقة وأخوة. لكن القاسم المشترك بينها، المبني على إقصاء أردوغان وإقامة نظام برلماني بدلاً من النظام الرئاسي، وجد صعوبة حتى الآن في تغطية الفجوة الأيديولوجية و”الأنا” المضخمة. الحزب الجمهوري (سي.اتش.بي) أكبر أحزاب المعارضة، له قيادة ذليلة ورئيس غير كاريزماتي. أما أكشينار، رئيسة الحزب الثاني من حيث حجمه في المعارضة، فهي بعيدة عن حمل راية حقوق الإنسان، وتعارض المصالحة مع الأكراد، ومتعصبة قومية وتسعى إلى إبعاد اللاجئين السوريين. أصلها السياسي هو الحزب القومي اليميني، الذي انسحبت منه في 2018 بسبب خلافات مع رئيس الحزب، دولت بهتشيلي، الذي سعت إلى إقصائه.
الأحزاب الأربعة الأخرى يديرها أشخاص مهذبون جداً، مثقفون ويعرفون اللغات، ولهم علاقات مع زعماء العالم، لكنهم في الاستطلاعات بعيدون جداً عن اجتياز نسبة الحسم، 10 في المئة. ولو وافقوا على ضم الأكراد في الكتلة لكانت لهم احتمالية أكبر. لكن ضم الأكراد في تركيا هو مثل ضم العرب في كتلة سياسية في إسرائيل، لن يكون ولن يحدث. ها هي معجزة. رغم النقص في التعاطف بين الزعماء، فقد نجحوا في الاجتماع مرتين وتشكيل الكتلة. بالمناسبة، كانت المرة الثانية الخميس الماضي، حينها تقرر وضع كليتشدار أوغلو كمرشح لكتلة المعارضة للانتخابات الرئاسية، وعندها أعلنت أكشينار عن انسحابها من المعارضة. هي تفضل رؤية رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، أو رئيس بلدية أنقرة، منصور يباش، مرشحين؛ لأنه لهما -حسب رأيها- فرصة أكبر للفوز. الاثنان أعضاء في الحزب الجمهوري، وقد أنزلا ضربة قاسية بأردوغان عندما فاز في الانتخابات البلدية في 2019 وقاما بإقصاء حزب العدالة والتنمية من الحصنين الأهم.
اعتبر إمام أوغلو منافساً شرساً لاردوغان، لذا تم تقديمه للمحاكمة بتهمة إهانة موظفين عامين. وفي كانون الأول الماضي، حكم عليه سنتين وسبعة وخمسة أيام سجناً، وهي فترة تبعده عن العمل في السياسة في فترة سجنه على الأقل. استئنافه يجري الآن في المحكمة، لكنه أعلن في نهاية الأسبوع الماضي أنه لا ينوي الترشح للانتخابات، وهذا ما فعله نظيره من أنقرة أيضاً.
قد لا يثق أردوغان بعدم تراجع أكشينار عن قرارها، ويمكن التخمين بأن هوسه بالسياسة سيثمر عدة خطوات في اللحظة الأخيرة من أجل تدمير المعارضة. ولكن لم يعد بإمكانه شكر “القدر” الذي جلب له مثل هؤلاء الخصوم. أردوغان سبق حكومة إسرائيل عندما قام بالانقلاب الدستوري الذي أعطاه مكانة الحاكم الأعلى. نأمل بأن لا تقلد المعارضة في إسرائيل أختها في تركيا.
القدس العربي