فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بولاية ثالثة وسط هدوء إقليمي تعيشه أنقرة بعد تطبيع علاقاتها مع عدد من الدول من بينها مصر. وهو ما يطرح التساؤلات بشأن مستقبل علاقتها بالإخوان الذين يعيشون الهزيمة في مختلف الدول العربية.
القاهرة – كشفت تداعيات فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية ثالثة عن مجموعة كبيرة من الإشارات الموحية التي تعكس طبيعة علاقات أنقرة مع جماعة الإخوان حاليًا ومستقبلًا.
وتعكس الإشارة الأولى المتعلقة بظهور الداعية المحسوب على جماعة الإخوان وجدي غنيم في صورة المُحبَط والمَخذُول بسبب عدم الموافقة على منحه الجنسية التركية جانبا من الصورة وليست كلها، حيث يمثل الرجل شريحة ممن يرغب النظام التركي في التخلص من أعبائهم السياسية والمعنوية، مقابل حرصه على الاحتفاظ بآخرين.
وقال غنيم في تسجيل مصور قبل أيام، وهو الذي تحظى إصداراته المرئية على اليوتيوب بمشاهدات وتفاعلات عالية، أن فرحته لم تكتمل بفوز أردوغان، حيث رُفض طلبه الخاص بنيل الجنسية التركية.
أنقرة لم يكن أمامها سوى رفض طلب وجدي غنيم بخصوص منحه الجنسية وتوفير ملاذ آمن له في إسطنبول
وينسحب هذا الإجراء على جزء من نشطاء الإخوان في تركيا، ولا يعني أنها بدأت تغلق ملف الجماعة وإنهاء الاستثمار في تيار الإسلام السياسي، وكل ما هنالك أن أنقرة توازن الكفة بين تحقيق المتاح من المصالح المتبقية باستخدام أوراق جماعة الإخوان غير المشاغبة وغير المثيرة للجدل، وبين الحرص على نيل ثقة مصر وبعض الدول الخليجية وعدم إثارة غضبها.
وإذا كانت المستجدات في المشهد اقتضت إظهار أنقرة العديد من صور التخلي عن دعم جماعة الإخوان بعد فشلها في تحقيق مشروع أردوغان الإقليمي وبسبب مقتضيات المصالحة مع دول عربية عدة، فإن دور الجماعة الوظيفي لم يُستنفد بالكامل، خاصة فيما يتعلق بصراعات حزب العدالة والتنمية الداخلية وحاجته إلى جهة منظمة تسند جماهيريته في الأزمات وخلال الاستحقاق الانتخابي المتعلق بالمحليات العام القادم التي يعتبرها أردوغان مصيرية بالنسبة إلى حزبه وجمهوره.
على الرغم من زيارات وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى تركيا وحضوره حفل تنصيب أردوغان رئيسا قبل أيام، إلا أن زيارته الإنسانية في فبراير الماضي عكست وجها مهما في العلاقات بين البلدين.وأظهرت الزيارة التضامن المصري إثر وقوع الزلزال المدمر، وأرسلت القاهرة وقتها مساعدات عينية لضحايا الكارثة، ما اعتبره مراقبون انعطافة ومؤشرًا على تبدل في المواقف، فأجنحة داخل النظام التركي استعانت بنشطاء الإخوان لجمع التبرعات لأسر الضحايا تحت عنوان ”أمة واحدة‟.
أجنحة الإخوان
ونشر محمود فتحي رئيس حزب الفضيلة السلفي وأحد أهم حلفاء الإخوان الهاربين والمطلوب على خلفية أحكام قضائية صورًا تجمعه وآخرين من رموز الجماعة مع مستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي وهم يوزعون المساعدات على المتضررين من الزلزال.
وتلعب أجنحة الإخوان دورًا مهما في سياق الدعاية الانتخابية المكثفة لحزب العدالة والتنمية ومشروعه الإسلامي، وهو ما لم يتغير خلال الاستحقاق الرئاسي الأخير، انطلاقًا من الرغبة في الإبقاء على خيط متين في علاقات النظام التركي مع جماعة الإخوان.
وبات من الواضح أن أنقرة تجري مواءماتها من منطلق هذا الفرز والتمييز بين انقضاء حاجة تركيا لأذرع الإخوان الخارجية للضغط على القاهرة واستمرار حاجتها للجماعة لتكريس هيمنة حزب العدالة والتنمية على السلطة إلى ما بعد خروج أردوغان من المشهد بعد انتهاء ولايته الثالثة.
ولم يكن أمام أنقرة سوى رفض طلب وجدي غنيم بخصوص منحه الجنسية وتوفير ملاذ آمن له في إسطنبول، حيث يُعد أحد أكثر رموز الإخوان إثارة للجدل بسبب فتاوى التكفير والتحريض والاغتيال السياسي التي أطلقها ضد رموز مصرية، في مقدمتها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وأدرجت محكمة جنايات القاهرة وجدي غنيم المحكوم عليه غيابيًا بالإعدام منذ عام 2017 بقائمة الإرهاب في فبراير الماضي، ويترتب على ذلك مصادرة أمواله وسحب جواز سفره أو إلغاؤه.
ويُعدّ اللعب بورقة غنيم في هذا التوقيت عملية رابحة بيد النظام التركي المقدم على خوض مرحلة أكثر تطورًا في سياق تطبيع العلاقات مع القاهرة، نظرًا إلى شهرة الرجل كصوت صاخب في إثارة الشغب ليس فقط ضد النظام المصري ورموزه بل ضد السعودية والإمارات اللتين تدرجانه أيضًا على قوائم الإرهاب لتحريضه على ارتكاب أعمال إرهابية.
تتسامح السلطات التركية مع استمرار وجود شخصيات إخوانية أقل حدة وأكثر التزامًا بضوابط وشروط أنقرة الجديدة بشأن عدم استخدام الساحة التركية للتحريض على الدول والأنظمة العربية.
وتحتضن الدولة أنشطة تنظيمية ومؤتمرات وفعاليات تعقدها جبهات جماعة الإخوان المتنافسة، وتسمح لشخصيات إخوانية بحرية التحرك، ولم تتخذ إجراءات صارمة ضد بعض الأشخاص ذوي النشاط الملحوظ ضمن فريق مستشاري أردوغان المقربين من ياسين أقطاي.
وتتعامل السلطات التركية مع هذا الملف بالقطعة والتدريج ووفقًا لمستجدات الأحداث وسير ملف التصالح مع مصر، ومن المرجح أن تتطلب المراحل اللاحقة اتخاذ إجراءات شبيهة بما حدث مع وجدي غنيم حيال شخصيات أخرى مثيرة للجدل مثل حمزة زوبع وعاصم عبدالماجد وغيرهما من المحكوم عليهم بأحكام قضائية نهائية أو من المدرجين على قوائم الإرهاب، نظير الحصول على مكسب أو التغاضي عن تجاوز في بعض الملفات الإقليمية المتشابكة مع القاهرة، وفقًا لما تقتضيه الألعاب التفاوضية.
وتبدو الملفات العالقة بين الطرفين متشعبة ولن تُحلّ بسهولة وسريعا، وسوف تتطلب امتلاك أوراق لمساومات وصفقات أثناء التسويات النهائية.
وتستسلم جماعة الإخوان لهذا المصير بعد أن فقدت الأمل في عودتها كلاعب مؤثر في مشروع إقليمي توسعي ترعاه أنقرة، وانحصر طموحها في أن تحظى بملاذ آمن لقادتها الهاربين أملا في حدوث تحولات جديدة تسعفها في الحصول على مكاسب سياسية.
ولذلك تتشبث بالقيام بأي دور ولو محدود في سياق خدمة مصالح حزب العدالة والتنمية الداخلية، مقابل عدم رفع الحماية عن قادتها وعناصرها.
الاشارة الثانية التي ظهرت بألوان متناقضة في كادر فوز الرئيس التركي بولاية ثالثة هي إجادة أردوغان الفوز والاستمرار في المشهد بشتى السبل، فيمَ تحترف جماعة الإخوان الخسارة، ما يكرّس افتراق طرق الحليفين لأنهما غير متشابهين ولا يملكان القدرات والخبرات السياسية المشتركة.
وما يجعل الرئيس التركي وخلفاءه في السلطة من بعده يزهدون على المدى البعيد في استمرار العلاقات مع الإخوان، هو انكشافها وقرب نهايتها بعد فشلها في استنساخ الأردوغانية والمواءمة بين الإسلامية والعلمانية، لأن الهدف الرئيسي من رعاية مشروع الإسلام السياسي كان المقصود منه الجوار والتحكم في دول المنطقة وليس موجهًا إلى الداخل.
ومع تجاوز الرئيس أردوغان المعضلات المحلية والإقليمية وتحقيقه الفوز على قاعدة توظيف خبراته المتراكمة وإمساكه بخيوط انتخابية عديدة، نجد أن كل أذرع الإسلام السياسي في المنطقة العربية هُزمت أو هُمّشت.
وعانت أحزاب تيار الإسلام السياسي من انتكاسات متلاحقة، إذ عُزل حزب الإخوان في مصر عن السلطة وتم حظره، وفقد الإخوان في الأردن صفتهم القانونية وانسحبت الحركة الدستورية الإسلامية الكويتية من دورتين انتخابيتين.
ولا يختلف حال أذرع الإخوان في العراق واليمن وسوريا كثيرًا، حيث لم تدر حملات ناجحة ولم تقدم قيادات قادرة على التعامل مع واقع يشهد نزاعات مسلحة ويسوده مناخ طائفي.
وكانت النتائج محبطة في شمال أفريقيا، فقد خسر حزب العدالة والتنمية في المغرب الانتخابات بعد أن شكل الإخوان فيها الحكومة، ووجدت حركة النهضة التونسية نفسها خارج المشهد بعد أن كان الإسلاميون في تونس أكبر حزب برلماني في الدولة.
ويرجع السبب الرئيسي في مواصلة مركز المشروع في تركيا إحراز الفوز رغم إظهاره في السنوات الأخيرة نزعات استبدادية وتحوله من سياسات العلمانية الحازمة التي كانت سائدة في التسعينات من القرن الماضي إلى السلطوية الإسلامية، إلى نجاحه في البدايات في تحسين الوصول إلى الخدمات مثل الرعاية الصحية.
قدم حزب العدالة والتنمية التركي عقب وصوله إلى السلطة أول مرة عام 2003 عقدًا من البطالة المنخفضة والنمو الاقتصادي القوي، ولم يشرع أردوغان عقب صعوده في سياسات تدجين الجيش والتضييق على الأحزاب المعارضة وسجن المنافسين والحد من الحريات العامة والسياسية إلا بعد سنوات من توسيع بعض الحريات، لاسيما منح بعض حقوق الأقليات اللغوية لأكراد تركيا، والظهور في صورة المصلح الذي يفي بالوعود الانتخابية ويعزز المؤسسات الديمقراطية في البلاد.
ولم يتعامل قادة أذرع الإخوان بالمنطقة العربية في الملف الاقتصادي والتنموي باستقلالية عن مركز المشروع، وبدلًا من السعي لخدمة مشروع نهضة وتنمية محلي صبت القرارات والتشريعات والصفقات لصالح استفادة المركز في أنقرة من ثروات البلاد على حساب المصالح الوطنية.
وبدلًا من امتلاك غالبية الخيوط قبل التحول إلى السلطوية والهيمنة عزلت أذرع الإخوان في المنطقة العربية نفسها بسبب إبداء العنصرية والتعصب الطائفي تجاه غير المنتمين للجماعة أو ممارسة الاغتيال لشخصيات اختلفت معهم، أو للفشل في التعامل مع الجيوش ومؤسسات الدولة العميقة.
ورغم التحالف الوثيق الذي جمع بين الإخوان والأردوغانية، إلا أن الجماعة مالت أكثر للخمينية، ووجدت أن نموذج دولة المرشد في إيران ينبغي استنساخه بتأسيس دولة مرشد سنية في مصر والمنطقة العربية.
ولم تتعامل الجماعة مع الهزيمة السياسية بمنطق وأدوات السياسة إنما تحولت مباشرة إلى العنف وتشكيل لجان نوعية مسلحة، وبدلًا من المناورة بمنطق الحزب السياسي العصري وتكتيكاته استغرقت في التاريخ القديم واستوحت مظلومية ميدان رابعة العدوية من السردية الكربلائية الشيعية.
وغاب الإخوان عن المشهد لأنهم أمعنوا في تغييب أنفسهم في دهاليز التاريخ عبر تصوير الرئيس الإخواني الأسبق محمد مرسي كونه رئيسا مظلوما تقاعسوا عن نصرته في محاولة لصناعة بطل مظلوم لأهل السنة، فيمَ حضر أردوغان واستمر في المشهد لأنه تعامل مع الواقع السياسي المعيش بأدواته المشروعة وغير المشروعة.
العرب