يؤكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن العراق يمر بفترة هدوء وزيادة في الاستثمار الأجنبي المباشر وازدهار لقطاع البناء، كدليل على أن بلاده تسير في الاتجاه الصحيح. لكن الكثيرين من العراقيين لا يشاركونه تفاؤله، وكذلك المؤشرات المحلية والعالمية التي تقول إن موازنة الوظائف الجديدة في القطاع العام تعوق التنمية والاستثمار في العراق.
بغداد – كانت استدامة انتعاش العراق من الجمود السياسي والاقتصادي بعد تولي محمد شياع السوداني منصب رئاسة الوزراء في أكتوبر الماضي موضوع نقاش مائدة مستديرة في المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية تشاتام هاوس في لندن منذ أسبوعين. واعتمدت هذه المائدة المستديرة قواعد تشاتام هاوس، أي أن لأي شخص في الاجتماع حرية نقل المعلومات من المناقشة، ولكن دون الكشف عن أصحاب التعاليق.
وبرز لزوار بغداد الذين حضروا المائدة المستديرة أن ثقافة المقاهي قد عادت، وانتشر شعور بالأمن بعد سنوات من العنف.
وذكر مقال حديث في مجلة الإيكونوميست أن “ردهات الفنادق تعج برجال الأعمال الصينيين. ويملأ المتفرجون مقاعد ميدان سباق الخيل الذي أعيد افتتاحه. وتعمل الرافعات في بناء مراكز التسوق والمجمعات السكنية بعد توقف دام 20 عاما. وتعود الحياة الطبيعية -أو على الأقل نسخة منها- إلى العراق”.
وقال أحد المشاركين في المائدة المستديرة “هذا حافز إيجابي” للاستثمار الأجنبي المباشر الذي يحتاجه الاقتصاد العراقي. ويأتي هذا الأمن جزئيا من حقيقة أن لرئيس الوزراء صلة متينة بميليشيات قوات الحشد الشعبي المسلحة التي يرتبط العديد منها بطهران مباشرة. وارتفعت في عهد السوداني أعداد المنتسبين إلى قوات الحشد الشعبي من 116 ألفا إلى 230 ألفا ونالت موازنة سنوية قدرها 2.7 مليار دولار. ولا يدفع هذا الدعم الميليشيات إلى استخدام أسلحتها لتأمين المكاسب.
المائدة المستديرة في تشاتام هاوس أبرزت قلّة المؤشرات الدالة على رغبة حكومة السوداني في مواجهة سيطرة النظام الإيراني
وتحددت موازنة 11 يونيو بمبلغ 153 مليار دولار واستندت إلى أسعار النفط البالغة 70 دولارا للبرميل. ويبدو هذا القرار “ساذجا” بسبب تقلبات السوق. ومن المؤكد أن الأسعار بلغت ذروتها بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عند 123 دولارا للبرميل في مارس 2022. وتراجعت ثم ارتفعت لفترة وجيزة في يونيو، قبل أن تتراجع إلى 70 دولارا.
وأشار صندوق النقد الدولي في تقييمه للاقتصاد في فبراير إلى اتساع العجز المالي للناتج المحلي الإجمالي غير النفطي من 45 في المئة إلى 63 في المئة. وتابع “مع الانخفاض التدريجي
لأسعار النفط العالمية، من المتوقع أن تشهد الأرصدة المالية العامة والحسابات الجارية الخارجية عجزا على المدى
المتوسط، مما يجدد ضغوط التمويل، وتناقص احتياطيات الصرف الأجنبي، واستنفاد الادخار المالي. يعرض هذا التوقع لمخاطر إضافية تتعلق بتراجع أسرع لأسعار النفط، ونشوب الاضطرابات الاجتماعية، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، واحتمال تسجيل عجز خاصة في قطاع الكهرباء”.
وشكك أحد المشاركين في المائدة المستديرة في كفاءة الموازنة، وتساءل “ماذا يحدث عندما يصل سعر النفط إلى 50 دولارا للبرميل؟”.
وتكافح حكومة السوداني لإبراز بعثها حملة للتصدي للفساد المستشري، مع توجيه 52 استدعاء إلى وزراء للتحقيق في شهر مايو. وتزعم الحكومة أن بيع الحقائب الوزارية وغيرها من المناصب الحكومية العليا قد توقف الآن. لكن “لا يمكن إيقاف 20 عاما من الفساد في 20 شهرا”. وكان الحاضرون في المائدة المستديرة متشككين في أن هذه الحكومة أفضل من سابقتها في إنهاء الفساد الذي يستمر في تدمير الاقتصاد وتقويض إمكانات التنمية في هذه الدولة الغنية بالطاقة.
ومن الأدلة التي تشير إلى أن الأمور لا تسير في الاتجاه الذي تزعمه الحكومة حقيقة أن القطاع العام المتضخم أصلا في العراق من المقرر أن تزيد مخصصاته في الموازنة مع إضافة أكثر من نصف مليون وظيفة جديدة. واقترح أحد المساهمين أن الرقم يمكن أن يكون 600 ألف. ثم صححه متحدّث آخر وحدد بكونه 739 ألفا. ورأى محاور أن حل الحكومة لمشكلة احتجاجات الشوارع تمثّل في منح وظائف للمتظاهرين.
القطاع العام المتضخم أصلا في العراق من المقرر أن تزيد مخصصاته في الموازنة مع إضافة أكثر من نصف مليون وظيفة جديدة
لكن شعاع الأخبار السارة برز وسط الكآبة العامة. فمع وجود دولة ورأس مال أكثر أمانا، يشير المستثمرون الأجانب إلى تجدد الاهتمام من قطر وتركيا والإمارات العربية المتحدة. ويشمل هذا التوجه الصين ومصر وإيطاليا وألمانيا كذلك. وكان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في بغداد في نفس اليوم الذي عُقدت خلاله المائدة المستديرة. وسافر إلى العراق لتوقيع صفقة تهدف إلى تطوير مشاريع بقيمة 9.5 مليار دولار، وتشمل بناء محطتين لتوليد الطاقة بإجمالي 2400 ميغاوات.
لكن الجدير بالذكر أن قطاع الطاقة يشهد أسوأ حالات الفساد. وقال أحد المشاركين “يختبئ مصدر كل الفساد في دعم الطاقة، الذي يكلف 30 مليار دولار من الإيرادات المفقودة و30 مليار دولار أخرى من الفرص الضائعة”.
وأشار أحد المتناقشين إلى وجود إيران القوي في القطاع. ويعتمد العراق على طهران لاستيراد الغاز رغم موارده الهائلة من الهيدروكربونات. وعندما يتأخر في المدفوعات، كما هو الحال في الكثير من الأحيان، تواجه إمدادات الغاز خطر التراجع مما يزيد من بؤس العراقيين العاديين ويضر بالاقتصاد أكثر.
وتعمل شركة إيرانية مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني على بناء مشروع بقيمة 17 مليار دولار بالشراكة مع شركة شل لاستخدام التقاط الغاز من الحرق بجنوب العراق في توليد الكهرباء.
وأشارت صحيفة فايننشال تايمز في تحقيقها المتعلق بالصفقة إلى أن “مجموعة مابنا التي تتخذ من طهران مقرا لها… يحق لها الحصول على 78 في المئة من عائدات مبيعات الكهرباء، وفقا لوثائق اطلعت عليها المنصة وثلاثة أشخاص مشاركين في العقود”.
ويشير المقال إلى أن الولايات المتحدة مهتمة “بالدور الذي لعبه السفير الإيراني السابق بالعراق الذي كان ينتمي إلى الحرس الثوري، حسن دانايفر، في الضغط على بغداد لصالح مابنا”.
ولا يمكن تأكيد قدرة الاستثمار الأجنبي الخارجي على تحرير العراق من القيود الاقتصادية وغير الاقتصادية التي فرضتها طهران. لكن هذا يبقى الاتجاه الذي يرغب معظم العراقيين في رؤيته. ومع ذلك أبرزت المائدة المستديرة في تشاتام هاوس قلّة المؤشرات الدالة على رغبة حكومة السوداني في مواجهة السيطرة الشديدة للنظام الإيراني.
العرب