حظيت تطورات الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها في فبراير 2022، بمتابعة دقيقة من قِبل محللي ومراقبي أسواق الطاقة من أجل رصد تبعاتها المُحتملة على إمدادات النفط والغاز للأسواق الدولية. ففي بداية الحرب، راهن المتعاملون في سوق النفط على استمرار ارتفاع أسعار الخام مع محدودية الإمدادات جراء التراجع المُحتمل للإنتاج الروسي من النفط على خلفية العقوبات الغربية الشديدة المفروضة على اقتصاد روسيا. وكان ذلك رهاناً خاسراً، في ظل تحويل موسكو الجانب الأكبر من صادراتها النفطية لأسواق الاستهلاك في آسيا بدلاً من أوروبا.
وتباعاً، فقدت أسعار النفط زخمها بعد أن تجاوزت حاجز 130 دولاراً في شهر مارس 2022 لتصل إلى أقل من 75 دولاراً حالياً. وعادت رهانات ارتفاع أسعار النفط مجدداً مع تمرد مجموعة فاغنر العسكرية الروسية بقيادة يفغيني بريغوجين على النظام الروسي في 24 يونيو الماضي، قبل أن يتم إنهاء هذا التمرد سريعاً. ورأى البعض هذا التمرد، بالرغم من فشله، بداية لتغيرات داخلية ربما تشهدها موسكو في المستقبل القريب، وقد تحمل في طياتها مخاطر بالنسبة لإمدادات النفط الروسية.
سياسة موسكو:
عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، حظيت السياسة الروسية لإنتاج النفط وتصديره باهتمام خاص من قِبل الأوساط النفطية، لما لها من تأثير جلي في أساسيات السوق. وفي البداية، راهن المتداولون على استمرار زخم أسعار خام برنت، التي بلغت أكثر من 130 دولاراً للبرميل في شهر مارس 2022، أي بزيادة قدرها 30 دولاراً للبرميل عن مستوى شهر فبراير السابق عليه. بيد أن تلك الرهانات كانت خاسرة بسبب السياسة الروسية الجديدة لتصدير النفط، ويتبين ذلك على النحو التالي:
1- إنتاج روسيا من النفط: في بداية الحرب الأوكرانية، شكك المراقبون في مقدرة روسيا على دعم استقرار إنتاج النفط، ولاسيما مع حظر الاتحاد الأوروبي لمنتجات الطاقة الروسية وفرض سقف سعري عليها لاحقاً. ومع ذلك، لم يتأثر إنتاج النفط الروسي سوى بشكل هامشي، وضخت موسكو نحو 9.45 مليون برميل يومياً من النفط الخام في مايو 2023، دون تغيير كبير عن إمدادات العام الماضي.
2- صادرات النفط الروسي: زاد الحظر الأوروبي على منتجات الطاقة الروسية اليقين لدى بعض المحللين بأن صادرات الطاقة الروسية ستتراجع بشدة في الأمد القصير، إلا أن هذا لم يحدث، وأعادت موسكو توجيه تدفقات النفط إلى أسواق الاستهلاك في آسيا بدلاً من أوروبا. وحتى شهر مايو 2023، بلغ إجمالي صادرات النفط الروسي (النفط الخام والمنتجات المكررة) نحو 7.8 مليون برميل يومياً، طبقاً للوكالة الدولية للطاقة، دون تغيير إلى حد كبير عن عام 2022، واللافت أن الصين والهند استحوذتا معاً على أكثر من نصف الصادرات الروسية في هذا الشهر.
3- التنسيق مع “أوبك+”: على مدار ثمانية أعوام، أسست موسكو شراكة مُربحة مع منظمة “أوبك” لدعم استقرار سوق النفط عبر سياسة خفض الإنتاج. ومع ذلك، تعرض التعاون المشترك بين الطرفين لاختبار قوي عقب اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث سعت موسكو لضخ كميات كبيرة من النفط الخام لتعويض تراجع صادراتها لأوروبا، وتراجع سعر خامها الرئيسي “أورال” بسبب السقف السعري الأوروبي.
وصار من الصعب على تحالف “أوبك+” تقييم امتثال روسيا لتخفيضات الإنتاج التي تعهدت بها، نتيجة سياستها لحجب بيانات إنتاج النفط، التي تبلورت في إصدار مرسوم حكومي يحظر على جهة الإحصاء الفدرالية الروسية نشر إنتاج النفط الخام والمكثفات لمدة 12 شهراً حتى إبريل 2024. ورغم ذلك، لا يزال هناك الكثير من قواسم التعاون المشتركة بين روسيا ومنظمة “أوبك”، حيث يحتاج كل منهما لدعم الآخر، لتفادي الدخول في حرب أسعار واسعة.
خطر جديد:
كان السيناريو الأسوأ بالنسبة لأسواق الطاقة هو استمرار تمرد مجموعة فاغنر لفترة طويلة، والذي كان سيتبعه في هذه الحالة تصعيد عسكري يلحق أضراراً بالبنية التحتية للنفط في روسيا، على نحو قد يترتب عليه تعطيل إمدادات الخام للأسواق الدولية. لكن ذلك لم يحدث، وتلاشت تلك المخاطر القوية التي تهدد سوق النفط العالمية.
وانخفضت حدة التصعيد في روسيا سريعاً، وانسحبت قوات فاغنر من مدينة روستوف الاستراتيجية، وذلك بفضل جهود الوساطة التي قام بها رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، المقرب من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ويعني هذا أن سوق النفط لن يتأثر بقوة بالأزمة الأخيرة أو على أقل تقدير سيبقى تأثيرها هامشياً للغاية، ولاسيما مع انتفاء أي علامات سلبية حول الوضع السياسي والعسكري في روسيا.
ومع نهاية جلسة يوم الاثنين 26 يونيو الماضي، تم تداول عقود خام برنت بهامش ارتفاع ضئيل لا يتجاوز نصف دولار عن جلسة يوم الجمعة السابق عليه، لتصل إلى 74.3 دولار للبرميل، مما يعكس عدم وجود أي تهديد مباشر لإمدادات النفط الخام في المدى القصير. وفي هذا الصدد، ترى شركة “ريستاد إنيرجي” النرويجية أنه من المستبعد حدوث زيادة كبيرة في أسعار النفط بسبب “الحدث قصير الأمد” الأخير، ومع ذلك أكدت أن المخاطر الجيوسياسية وسط عدم الاستقرار الداخلي في روسيا قد ازدادت.
وبناءً عليه، يمكن القول إن المتداولين في سوق النفط سيتعاملون مع تمرد فاغنر أخيراً باعتباره خطراً جيوسياسياً آخر للحرب الأوكرانية، وسيُمثل ذلك عاملاً لصعود أسعار النفط في وقت لاحق، إذا أظهر الوضع الداخلي الروسي أية مؤشرات سلبية جديدة. وتُرجح بعض الآراء أن هذا التمرد السريع ما هو إلا مقدمة لزيادة التوتر الداخلي في روسيا، التي قد تفرض قيوداً على مسار إنتاج وتصدير نفطها. فيما تشير آراء أخرى، وهي ربما الأكثر ترجيحاً، إلى أن الداخل الروسي سيُظهر تماسكاً أكبر في الفترة المقبلة بالرغم من التمرد العسكري الأخير، على نحو سيدعم في النهاية تطلعات موسكو لزيادة صادرات نفطها لمساندة اقتصادها وتعزيز موقفها العسكري في الحرب الأوكرانية.
ترقب متزايد:
على أية حال، ستكون تطورات الأوضاع الداخلية في روسيا محل مراقبة دقيقة من حلفائها الرئيسيين، خاصة الصين والهند. ويبدو من السابق لأوانه أن تتخذ كلا الدولتين موقفاً معاكساً وتبتعد عن شراء النفط الروسي، بيد أن بكين أو نيودلهي ستفسران تمرد فاغنر بأنه قد يكون مؤشراً على ضعف شريكتهما، ويمكن انتهاز هذه الفرصة لنيل مكاسب سياسية واقتصادية مثل الحصول على شحنات النفط الروسي بتخفيضات سعرية أكبر.
على جانب آخر، تشير مذكرة صادرة عن مصرف “آر بي سي كابيتال ماركتس” الكندي يوم 25 يونيو الماضي، إلى أن الإدارة الأمريكية انخرطت في التواصل مع المنتجين المحليين والأجانب الرئيسيين لتأمين إمدادات السوق، في حال تراجع الإنتاج الروسي من النفط بسب التطورات الأخيرة. ويبدو ذلك تحوطاً سابقاً لأوانه من قِبل واشنطن في ضوء انتفاء التهديدات المباشرة لإمدادات النفط الروسية، لكنه يعكس قدراً من عدم اليقين الناجم عن التمرد العسكري لفاغنر وتأثيره المُحتمل في سوق النفط العالمي.
ومن المُرجح أن يستمر التعاون الوطيد بين روسيا و”أوبك” في إطار تحالف “أوبك+”؛ لأنه من مصلحة الطرفين استئناف سياسة سقف الإنتاج لدعم استقرار السوق وتعزيز توازن النفط. ومع ذلك، ستترقب منظمة “أوبك” بجدية التطورات الأخيرة في روسيا، تحسباً لحدوث أية مستجدات، لن تؤثر في السياسة الإنتاجية لروسيا فقط، بل أيضاً في أهداف تحالف “أوبك+” برمتها.
ختاماً، يمكن القول إن تأثير تمرد مجموعة فاغنر في سوق النفط بدا هامشياً حتى الآن، خاصة مع عدم وجود أي علامات على تهديد إمدادات النفط الروسية. ومع ذلك، لن يكون بمقدور المتعاملين في سوق النفط العالمي تجاهل ما حدث تماماً، حيث ستظل التطورات الداخلية في روسيا والبنية التحتية للنفط فيها وسياستها محل مراقبة المستثمرين ومُصدري ومُستوردي النفط في العالم.
المستقبل للدراسات