تتصدر السويد منذ اتخاذها قرار الانضمام إلى حلف الناتو، بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، نشرات الأخبار ودراسات مراكز الأبحاث وتحليلات المختصين.
فهي متهمة من جانب تركيا بفتح أراضيها ومؤسساتها أمام حزب العمال الكردستاني وواجهاته المختلفة، خاصة السورية منها. كما أنها قد باتت إلى جانب ذلك موضوعاً لحملة إعلامية مركزة، لا سيما عبر وسائط التواصل الاجتماعي، حملة لا تستند إلى وقائع موثقة وإنما على إشاعات ومعلومات مضللة، محور هذه الحملة أن الأطفال المسلمين يتعرضون للخطف من قبل موظفي دوائر الخدمة الاجتماعية. كما تعيش السويد تحت وقع الإدانات، والدعوات المطالبة بمقاطعتها تجاريا، وذلك بسبب منح سلطاتها المختصة تصاريح تسمح لأصحابها بإحراق نسخ من المصحف الكريم في أماكن وأوقات محددة، يُستنتج من اختيارها بأن هدف هؤلاء هو الإثارة والتحريض، وإحداث البلبلة والفتن، وليس التعبير عن الرأي بحرية كما يدّعون.
وفي مقابل ذلك أصبحت السويد، وربما منذ زمن بعيد، ميداناً وهدفاً للنشاط التجسسي الروسي، خاصة بعد قرارها الخاص بالناتو الذي جاء ليضع حداً لالتزامها بسياسة الحياد على مدى أكثر من مئتي عام.
ومن الملاحظ ان كل هذه الحملات تتفاعل في ما بينها؛ وهي حملات أدت، وتؤدي، إلى تشويه سمعة السويد الإيجابية التي اتسمت بها على مدى أكثر من قرنين؛ خاصة منذ أيام ما بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى يومنا هذا، وهي المرحلة التي غدت خلالها السويد بلداً صناعياً متقدماً، واعتمدت نظام الرفاه الاجتماعي الذي اقتدت به لاحقاً الدول الاسكندنافية الأخرى، والعديد من الدول الأوروبية. وكانت السويد أيام الحرب الباردة النموذج الذي شكل إزعاجاً مستمرا لقيادة الاتحاد السوفييتي السابق التي كانت تقدم تجربتها إلى العالم بوصفها النموذج المثالي غير المسبوق. هذا بينما كانت الشعوب الخاضعة للأجهزة العسكرية والأمنية التابعة للاتحاد السوفييتي تعاني الأمرّين على صعيد المعيشة وانعدام الحريات. وما زال الجيل الذي عاصر تلك المرحلة يتذكر تفاصيل العنف الوحشي الذي اُعتمد لإجهاض تجربتي المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، ووأد تطلعات شعبي البلدين نحو حياة عادلة تضمن مقومات العيش الحر الكريم للمواطنين.
ومما لا شك فيه أن المستفيد الأول مما يجري في السويد راهناً، وما تتعرض له من حملات إعلامية مركزة هو النظام الروسي بالدرجة الأولى الذي له مصلحة في عرقلة عضوية السويد في الناتو، وذلك لحسابات استراتيجية راهنة ومستقبلية. فالسويد تمتلك من الامكانيات اللوجستية والبشرية والأسلحة النوعية، إلى جانب الموقع الجغرافي، ما يؤهلها لتكون عمقاً استراتيجياً للجناح الشرقي في الحلف خاصة بالنسبة إلى بولونيا ودول البلطيق، وحتى بالنسبة إلى فنلندا.
من جهة ثانية، تختزل ماكينة الدعاية الروسية ونسخها لدى الأنظمة الدائرة في الفلك الروسي قضية الديمقراطية في دول الغرب في قضية المثليين، في محاولة تضليلية لدغدغة مشاعر المتدينين والمحافظين من أتباع مختلف الأديان، بينما تتجاهل تلك الماكينات المسألة المحورية في أي نظام ديمقراطي، وهي تتمثل في ضرورة أن تستمد السلطة شرعيتها من إرادة المواطنين الأحرار، وذلك عن طريق انتخابات شفافة نزيهة، لا تتدخل فيها الأجهزة الأمنية والمافياوية، ولا تكون نتائجها 99% لصالح الطغمة الحاكمة، كما هو الحال في الانتخابات الروسية وتلك التي جرت، وتجرى، في الجمهوريات العربية العسكرية وغيرها من الأنظمة الدكتاتورية في العالم.
بالإضافة إلى الروس تحاول القوى المتشددة المتطرفة سواء السويدية منها أم الأوروبية بصورة عامة، بالإضافة إلى القوى المتشددة بغض النظر عن شعاراتها العلمانية أو الإسلاموية الاستفادة مما يجري في السويد من فعاليات تثير الكثير من الجدل، خاصة تلك التي يتم فيها إحراق المصحف؛ فهذه الأخيرة على وجه التحديد تثير مشاعر الجالية المسلمة السويدية والجاليات المسلمة في الدول الأوروبية، كما تثير مشاعر المسلمين في سائر أنحاء العالم الإسلامي.
فالمصحف هو بالنسبة إلى المسلمين جميعاً بغض النظر عن نوعية مذهبهم ودرجة التزامهم هو الكتاب الأقدس، وهو يجسّد الانتماء والهوية، وأساس التربية؛ لذلك فإن إحراقه في أماكن وأوقات مختارة بعناية كيدية، وما يرافق ذلك من تصريحات وحركات تستهدف بث الأحقاد وتكريس نزعات الكراهية، كما فعل ذلك العراقي الذي أقدم على إحراق المصحف في يوم عيد الأضحى وأمام مسجد ستوكهولم، يؤدي إلى سيل كبير من الاحتجاجات وردود الأفعال الغاضبة.
وما هو غير مفهوم حتى الآن هو القصد من إحراق المصحف: هل المعني بذلك هو الدعوة إلى إلغاء الإسلام بالكامل من حياة الناس، وهو يشكل دين أكثر من مليار إنسان موزعين في جميع أنحاء العالم؟ أم أن الرسالة موجهة إلى المتطرفين الإسلامويين الذين يستغلون اسم الإسلام لتنفيذ جرائمهم وتسويغها؟ وفي هذه الحالة الأخيرة لا بدّ من التفريق، وربما يمكن الاكتفاء بكتابة وجهات النظر ونشرها، أو تنظيم برامج إذاعية، أو حتى إحراق رموز المتطرفين الخاصة بهم دون التعميم الذي يشمل سائر المسلمين.
وكان اللافت أن السياسيين السويديين على أعلى المستويات بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه قد عبّروا عن عدم رضاهم تجاه ما حصل؛ بل أعلنت وزارة الخارجية السويدية صراحة عن موقفها السلبي مما حصل، وامتدت الإدانات إلى الفاتيكان ومعظم الدول الغربية ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، كما استنكرت رئيسة الجالية اليهودية في السويد ما حصل.
واليوم هناك جهود حثيثة تبذل لتحقيق توافق بين الأحزاب السياسية في البرلمان للتمكن من تمرير تعديل بعض المواد في القانون السويدي الأساسي الخاص بحرية التعبير. فالمناقشات العميقة بين السياسيين والمختصين في قضايا الأديان والإسلام تميل نحو إخراج مسألة إحراق الكتب المقدسة لسائر الأديان، من الدائرة التي تشملها حرية التعبير، وذلك باعتبار أن المساس بها يثير مشاعر المجموعات السكانية والمواطنين المعتنقين لهذا الدين أو ذاك.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى تقدم أشخاص وفق الجهات السويدية الرسمية، ضمن إطار ردود الأفعال، بطلبات للحصول على تصاريح بإحراق نسخ من الإنجيل والتوراة، الأمر الذي سيؤدي في حال حصوله إلى المزيد من التوتر والتعقيد.
أما تفسير الموقف التركي المتشدد بخصوص الموافقة على عضوية السويد إلى حلف الناتو، فمن الواضح أنه كانت له أسبابه الانتخابية الداخلية التي لم تعد فاعلة بعد فوز حزب العدالة والتنمية واستمرارية الرئيس رجب طيب أردوغان. وتركيا تدرك تماما أنه ليس في مقدور الحكومة السويدية أن تقدم على خطوات لا تسمح بها القوانين السويدية لا سيما من جهة تسليم المطلوبين لتركياً. ولكن الحكومة المعنية عملت، وربما تعمل مستقبلا، لإدخال تعديلات على القانون الأساسي (الدستور)، بناء على المصالح العليا للسويد، ومن أجل وضع حد للقراءات المختلفة أو التفسيرات المتباينة لمواد الدستور والقوانين.
والاعتقاد السائد لدى مختلف الأطراف المنخرطة في المساعي الرامية إلى إقناع تركيا بالموافقة على عضوية السويد في الناتو، هو أن تركيا تتمسك بورقة السويد من أجل الوصول إلى توافقات مع الأمريكان بخصوص ضمان الحصول على الطائرات العسكرية المتطورة؛ بالإضافة إلى توافقات حول الترتيبات الأمنية في سوريا وفي منطقة شرق الفرات تحديداً، حيث تتواجد قوات التحالف الغربي بقيادة أمريكية، وهي القوات التي تعتمد على «قسد» كقوة ميدانية؛ ومن المعروف لدى الجميع أن حزب العمال الكردستاني هو الذي يتحكم بـ«قسد» وذلك على نقيض الشعارات والادعاءات.
السويد ودول الناتو، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، في سباق مع الزمن. فبعد أيام ستكون قمة الناتو في فيلينوس عاصمة لاتفيا. وقبل أيام كانت زيارة أولف كريسترسون رئيس وزراء السويد إلى واشنطن حيث التقى مع الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي عبر له عن دعمه المفتوح القوي بخصوص مسألة الانضمام إلى الناتو؛ وكان اللقاء بين وزير خارجية السويد توبياس بيلستروم ونظيره التركي هاكان فيدان في بروكسل؛ وسيكون هناك لقاء بين الرئيس التركي أردوغان ورئيس وزراء السويد كريسترسون في فيلينوس يوم العاشر من تموز/يوليو الجاري، أي قبل قمة الأطلسي بيوم واحد؛ وكل ذلك يوحي بإمكانية الحلحلة في موضوع انضمام السويد إلى الناتو، مقابل حصول تركيا على بعض ما تريده من الجانب الأمريكي. فتركيا لا تستطيع إلى ما لا نهاية تحمّل ضغط 29 دولة في الناتو وافقت حتى الآن على عضوية السويد؛ وليس في مقدورها الاستغناء عن مصالحها الاقتصادية الضخمة مع الاتحاد الأوروبي. وهي تعلم أن روسيا المنتصرة أو المهزومة في أوكرانيا لن تكون بديلها المفضل، بل ستكون (روسيا) في حال الانتصار منافستها الأكبر في شمالها وجنوبها؛ أما في حال الهزيمة فستكون عبئا إضافيا يثقل كاهلها في أي مواجهة اقتصادية أو تكنولوجية غير محسوبة مع الغرب.
ويبقى الموضوع الكردي الذي يُعد الموضوع الداخلي التركي الأهم. هل ستساعد أمريكا وحليفاتها الأوروبيات في مقاربة واقعية عادلة له، وذلك عبر تشجيع الحكومة التركية لتعود مجددا إلى مائدة الحوار والمفاوضات، لتستعيد العملية السلمية حيويتها، وبشروط وأدوات جديدة، من بينها توسيع دائرة المفاوضين لتكون منسجمة مع أهمية الموضوع على الصعيد الوطني التركي العام؟ وأهمية هذا الموضوع هو أن حلّه بحكمة بعيدة النظر سيكون في مصلحة تركيا وسوريا والمنطقة بأسرها.
القدس العربي