لا يحتاج الأمر إلى نفاذ كبير إلى مصادر المعلومات لإرجاع التحركات الدبلوماسية التركية الأخيرة إلى الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد وتؤثر بصورة حادة على عموم السكان. سواء تعلق الأمر بالانعطافة التركية الكبيرة وتغيير الوجهة من موسكو إلى واشنطن وبروكسل، بمناسبة انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي، أو جولة الرئيس اردوغان على ثلاث دول خليجية، السعودية وقطر والإمارات، التي رافقه فيها وفد كبير من رجال الأعمال، إضافة إلى أركان الحكومة المختصين بإدارة دفة الاقتصاد. وقد سرب الصحافي سايمور هيرش معلومة عن فحوى اجتماع الرئيسين بايدن واردوغان على هامش قمة الأطلسي، مفادها وعد الرئيس الأمريكي لنظيره التركي بتأمين قرض يتراوح بين 11-13 مليار دولار. ذلك أن إحدى المشكلات الكبرى التي تواجهها تركيا هي تأمين سيولة نقدية بالعملة الصعبة بعدما تم بيع الاحتياطي منها على دفعات في السوق المحلية، طوال السنة السابقة على الانتخابات، للحفاظ على قيمة العملة المحلية أمام الدولار. كما أن الميزان التجاري راجح لمصلحة الاستيراد الذي يتطلب تأمين العملات الصعبة، فيصبح الاقتراض الحل الوحيد للخروج من المأزق.
يصف خبراء اقتصاديون البرنامج الاقتصادي الذي بدأت الحكومة التركية بتطبيقه، بأنه «وصفة صندوق النقد الدولي بدون قرض منه». فقد بدأت تتضح الوجهة التي تمضي فيها الحكومة الجديدة من خلال إجراءات مالية واقتصادية صارمة أبرزها رفع معدلات الضرائب على الاستهلاك بصورة حادة، ورفع معدلات الفائدة بصورة متدرجة بهدف العودة إلى برنامج ليبرالي «أرثوذوكسي» بقيادة وزير المالية الجديد محمد شمشك. وهو ما يمكن اختصاره بالتوصيف الشائع «شد الأحزمة» إلى حين تتم معالجة المشكلات الخطيرة التي تسببت بها السياسة الشعبوية للحكومة السابقة التي كان رائزها تأمين الفوز في الانتخابات. أما وقد تم هذا الفوز وآن الأوان «للنزول من فوق الشجرة» فقد أخذت الحكومة تبذل ما في وسعها لإغراء المستثمرين الأجانب وتأمين قروض عاجلة، وهو ما يتطلب «تضحيات» شعبية من تحمل مزيد من التضخم والفواتير المرتفعة وارتفاع معدلات البطالة وفقدان مصادر الدخل.
إذا كانت هذه حال السلطة التي أمّنت البقاء لخمس سنوات جديدة، فما هي حال المعارضة بعد خسارتها في الانتخابات النيابية والرئاسية؟
إحدى المشكلات الكبرى التي تواجهها تركيا هي تأمين سيولة نقدية بالعملة الصعبة بعدما تم بيع الاحتياطي منها على دفعات في السوق المحلية، طوال السنة السابقة على الانتخابات، للحفاظ على قيمة العملة المحلية أمام الدولار
لقد أدت هذه الخسارة إلى صدمة كبيرة في الصف المعارض لم يستيقظ منه إلى الآن على رغم مرور شهرين على انقضائها. ومرد ذلك شيوع جو التفاؤل بفوز «مؤكد» لدى مختلف أحزاب المعارضة، بحساب بسيط هو «استحالة» فوز جناح السلطة في ظل الأزمة الاقتصادية وتداعيات الزلزال المدمر الذي ضرب مساحة واسعة من جنوب شرق الأناضول وأدى إلى أضرار كبيرة في الأرواح والممتلكات. غير أن تلك الحسابات أغفلت عوامل أخرى أهمها مهارة السلطة في إدارة حملتها الانتخابية مقابل عدم قدرة المعارضة على إقناع كتلة راجحة من الناخبين ببرنامجها وأدائها.
وقد ضربت خيبة الأمل هذه، أكثر ما ضربت، حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة وقائد الائتلاف السداسي الذي ضم أحزاباً متنوعة المشارب الإيديولوجية. وقد بدأ التراشق بالاتهامات داخل صفوف هذا الحزب منذ لحظة إعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في 28 أيار، لتحميل مسؤولية الخسارة لكبش فداء هو زعيم الحزب ومرشح الائتلاف السداسي للرئاسيات كمال كليتشدار أوغلو. وبرزت مطالب من داخل الحزب تدعوه إلى الاستقالة. بل هناك تسريبات إلى وسائل الإعلام عن مساع تكتلية تهدف إلى عقد مؤتمر استثنائي للحزب لإبعاده عن رئاسته، من أبرز دعاته رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو. وتنشر وسائل الإعلام المقربة من الحزب كل يوم مقالات وحوارات لصناع الرأي تعكس الصراع الداخلي المحتدم بين أنصار كليتشدار أوغلو ومناوئيه الداعين للمراجعة و«التجديد». لا يستبعد والحال هذه حدوث انشقاق أو انشقاقات داخل الحزب في غضون الأشهر القادمة، وهو ما سيؤدي على الأرجح إلى إضعاف الحزب ـ والمعارضة عموماً ـ قبل أقل من سنة على موعد الانتخابات المحلية، بحيث يبرز احتمال لا يمكن استبعاده بشأن استعادة السلطة لبلديات المدن الكبرى التي فازت بها المعارضة في الانتخابات المحلية السابقة.
أما الأحزاب الصغيرة التي انضوت داخل الائتلاف المعارض، حزب التقدم والتنمية بقيادة علي باباجان، وحزب المستقبل بقيادة أحمد داوود أوغلو وحزب السعادة الإسلامي، فهي تبدو قانعة بالمقاعد النيابية التي حصلت عليها (37 مقعداً) بفضل انضوائها في التحالف، وما كان لها أن تحلم بالحصول عليها لولاه. ولم يعد أحد يتوقع استمرار التحالف السداسي الذي ذهب كل حزب فيه «إلى حال سبيله».
الإعلام الغربي الذي واظب على استهداف اردوغان، إلى ما قبل قمة الأطلسي في العاصمة الفنلندية، بدأ يتعاطى معه كنجم يملك مهارة المناورة والابتزاز وإجراء الصفقات السياسية الرابحة. فقد استطاع أن يستخدم «ورقة السويد» لتحقيق مكاسب لا يستهان بها. وما زال قادراً على استثمارها لتحويل الوعود الأوروبية والأمريكية إلى حقائق، إلى حين تصويت البرلمان التركي الذي يسيطر على غالبيته على سحب الاعتراض على عضوية السويد من عدمه في الخريف القادم.
القدس العربي