رغم كارثة الزلزال والتضخم وانخفاض سعر العملة والدعاية الغربية المناهضة له، ومنذ خروجه من «مضيق» الانتخابات النيابية والرئاسية منتصرا، انهمك الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في إعادة تقييم شاملة لجذور الإشكالات السياسية مع دول الإقليم وأوروبا والعالم، في سعي تاريخي لتأمين مسار آمن لبلاده في عالم شديد الاضطراب، ولرفع سويّة الاقتصاد بشكل يحدث فارقا في حياة مواطنيه.
ظهر ذلك جليا خلال قمة الناتو، مع إعلان اردوغان قبول أنقرة دخول السويد للحلف، ومطالبته بإحياء مسار عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي، ومع رحلته إلى منطقة الخليج العربي، زائرا قطر والسعودية والإمارات، ليعود مجددا لمداواة جراح الصداقة اللدودة مع روسيا، عبر العمل على إعادة اتفاق نقل الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، الذي امتنعت موسكو عن تجديده مؤخرا.
تضمنت أجندة الرئيس التركي القضية الفلسطينية حيث قام، أمس الجمعة، بدعوة الرئيس محمود عباس، ثم رئيس حكومة إسرائيل بعده بثلاثة أيام، كما أعلن أنه سيزور ليبيا، التي كانت تركيا، وما تزال، لاعبا رئيسيا فيها، وتابع تحريك ملف تحسين العلاقات مع مصر.
يمكن اعتبار هذا التوجّه السياسي إعادة تموضع استراتيجي لتركيا، ولكن ذلك لا يخلو من مكاسب مثل تعهد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن العمل على إتمام صفقة بيع تركيا مقاتلات إف 16 وتحديث أسطولها الجوي، وبإزالة القيود على تجارة الأسلحة بين أعضاء الحلف، وفي موافقة السويد على تشكيل آلية أمنية ثنائية مع تركيا «لمكافحة الإرهاب».
على الأغلب أن الهدف البعيد من هذا التموضع الذي يوازن العلاقات بين الغرب وروسيا، إضافة إلى هذه الأوراق التي تنضاف لحساب أنقرة، هو إشاعة وضع سياسيّ مناسب للاستثمار وتنمية الاقتصاد وتحسين أوضاع المواطنين الأتراك.
سوريا، التي كانت موضوع مزاودات كبيرة في المشهد السياسي التركي خلال الانتخابات، ما تزال موضوعا مستعصيا، ويبدو أن مواقف النظام السوري المناهضة بشكل شخصي لاردوغان وحزبه، والتي أوضحها بشار الأسد بجلاء خلال خطابه في اجتماع القمة العربية في جدة، وكذلك المواقف الضمنية الروسيّة والإيرانية، ساهمت في موقف اردوغان خلال قمة «الناتو» الذي أزعج وأحرج قيادة الكرملين.
إذا كان متوقعا أن يشكل موضوع اللاجئين السوريين في تركيا قضية للاستغلال الانتخابي، فإن استمرار ذلك بعد الانتخابات يبدو إشكاليا بمقاييس السياسة والمصالح الاقتصادية، ناهيك عن الشرع الحقوقية العالمية، فالهجوم على اللاجئين يشكّل بندا أساسيا في أجندات اليمين العنصريّ في العالم.
ما حصل في تركيا يدلّ، على ما يظهر، على إشكالية سياسية تعاني منها جميع الأحزاب، فإذا كان غريبا أن المعارضة «العلمانية» التي تدّعي وصلا بالغرب وحقوق الإنسان دخلت بقوة على خط التحريض على اللاجئين، فإن الأغرب هو أن سياسات التحريض هذه، ومفاعيلها السيئة على أولئك اللاجئين، استمرت، وهو ما شكّك الكثيرون بقدرة المنظومة السياسية التركية على الخروج من هذه الأجندة المغلقة التي يدفع ثمنها المهمّشون والفقراء والمظلومون.
التموضع الاستراتيجي الذي ستحصل تركيا، تحت قيادة اردوغان، على مكاسب عديدة منه، لا يجب أن يغيّب عن بصيرة المنظومة الحاكمة، من الحزب الحاكم وحلفائه، إلى المعارضة وحلفائها، أن مبادئ السياسة والاقتصاد لا يجب أن تتعارض مع مبادئ الأخلاق الإسلامية و«العلمانية».
القدس العربي