معظمُ الرجالِ يستعيرون فاعليتهم من مكاتبهم، من صلاحياتها وأختامِها وامتيازاتها؛ ولهذا يخسرون كلَّ شيءٍ حين يخسرونَها. وبعضُ الرجال يعيرُ المكاتبَ من لمعانِه فتخسر حين تخسرُهم. ثمةَ رجالٌ أكبرُ من مكاتبهم. ربَّما لأنَّ لديهم فكرة وشغفاً وعناداً. يغادرون ويصطحبون معهم وهجَهم. صاحبُ الشغفِ لا يتقاعد ولا ينطفئ. يعثرُ دائماً على ما يمدّد ارتباطَه بالعالم. وأرفعُ وسامٍ يناله إنسانٌ هو أن يُقالَ إنه ترك بصمتَه. ويصدق ذلك في حقول السياسةِ والتكنولوجيا والأدبِ ومختلف مجالات التقدم.
كان يفترضُ أن يكونَ هنري كيسنجر مقيماً الآن بين أوراق النسيان وتجاعيدِ العمر، لكنَّ الرجلَ الذي يحمل في جسدِه مائةَ عامٍ لا يستسلم ولا يستقيل. وما هم أن يقال إنَّه لا يعوزه الغرور ولا تنقصُه شهيةُ السباحةِ في الأضواء. يكفي أنَّ كثيرين لم يحفظوا اسمَ وزير الخارجية الأميركي الحالي، لكنَّهم يتذكَّرون تماماً اسمَ كيسنجر الذي غادر مكتبَه قبل خمسةِ عقود.
حملَ كيسنجر عبءَ أعوامِه إلى الإمبرطورية التي كانت خائفةً واستحالت مخيفةً. التقطت القيادةُ الصينية الفرصةَ لتحوّلَ الزيارةَ إلى تاريخيةٍ بالفعل، ولتُحمِّلَها قدراً غيرَ قليل من الرسائل. اختار شي جينبينغ استقبالَ كيسنجر في المقر الذي التقَى فيه الزائر الأميركي في 1971 رئيس وزراء الصين يومَها شو إن لاي. وهي الزيارة التي أتاحت بعدَ عامٍ رحلةَ ريتشارد نيكسون التاريخية للقاء ماو، وإطلاق انقلابٍ هائلٍ في موازين القوى الدولية.
قال شي إنَّ الصين لن تنسى «الصديقَ القديمَ ومساهمته التاريخية»، معتبراً أنَّ ما فعله لم يفدِ البلدين فقط «إنَّما غيَّر العالم». قال أيضاً إنَّ العالمَ يشهد تغيّراً هائلاً لم يشهد مثلَه منذ قرن، وإنَّ «الصين والولايات المتحدة على مفترق طرق مرةً أخرى، ويجب على الطرفين القيام بخيار». لم تبخلْ بكين على الزائر بالإشادات، وكأنَّها تبعث برسالة صريحة إلى الإدارات الأميركية المتعاقبة التي تزداد لديها عقدة الخوف من الصعود الصيني. كبير الدبلوماسيين وانغ يي كانَ أكثر وضوحاً حين قال: «إنَّ السياسة الأميركية تجاه الصين تحتاج إلى حكمةٍ دبلوماسيةٍ على طريقة كيسنجر، وشجاعةٍ سياسيةٍ على طريقة نيكسون».
كنت أتابع هذه الزيارةَ حين خطر في بالي أن ما يضاعف أهميتَها أيضاً أحوال سيد الكرملين الحالي، الذي يتذكَّر بالتأكيد أنَّ زيارة كيسنجر الأولى كانت تهدف إلى تحريك «الورقة الصينية» في وجه الاتحاد السوفياتي. لم تعدِ الصينُ ورقةً، ولم يعدِ الاتحادُ السوفياتي موجوداً. رحتُ أفكّر بفلاديمير بوتين.
كنت بين الذين أخطأوا التقدير عشية اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا. عَدَدْتُ الحشودَ الروسية على حدود أوكرانيا مجردَ محاولةٍ لتصعيد الضغط على السلطات في كييف، لإقناعها بسلوك طريق الواقعية في التعامل مع مواطنيها ذوي الميول الروسية، ومع حلمها بالانضواءِ تحت حلف «الناتو». تآكلُ مصداقيةِ الإدارات الأميركية المتعاقبة دفعنا إلى التشكيك في كلام واشنطن أنَّ الجيش الروسي يستعد لاجتياح أوكرانيا. وحين انطلق الغزوُ دفعنا الإعجابُ القديمُ ببوتين إلى توقّع أن يكونَ قد استند إلى معلومات أكيدة أنَّ الغزو سيؤدي سريعاً إلى انهيار الحكومة الأوكرانية، وانطلاق آلية تفاوض لاسترضاء موسكو. واستبعدنا أن يتعثَّرَ الجيشُ الروسي الذي أنفق بوتين مئاتِ مليارات الدولارات على عملية إعادة تأهيله. وها هي روسيا غارقةٌ في حربٍ لا تستطيع أن تحسمَها، ولا تستطيع أن تخسرَها. لقد وقع بوتين في فخ التقارير الخاطئة، رغم تجربتِه الطويلةِ في عالم التقارير.
يؤكّد الرئيسُ الروسي أنَّ الهجوم الأوكراني المضاد فشل. وقد يكون ذلك صحيحاً بعدما تمكَّن الجيش الروسي من تعزيز خطوطه الدفاعية، وزرع الأراضي الأوكرانية ببحرٍ من الألغام. وقد يكون صحيحاً أنَّ أوكرانيا لن تتمكَّن أبداً من إجلاء القوات الروسية عن كامل أراضيها، لأنَّ التكلفة البشرية لمهمة من هذا النوع تفوق طاقتَها. لكن الأكيد في المقابل هو أنَّ صورة روسياً في العالم اليوم هي غير ما كانت عليه عشية انطلاق الغزو. يزداد كلامُ الخبراء عن أنَّ الحربَ في أوكرانيا كشفت هشاشةَ نظام بوتين، خصوصاً بعد تمرّد زعيم «فاغنر»، واضطرار الكرملين إلى إبرام شبهِ تسويةٍ معه.
يستطيع بوتين القولَ إنَّ بلاده لم تسقط في عزلة دولية شاملة. دول كبرى، خصوصاً في آسيا، اختارت موقفاً محايداً أو شبهَ محايد، وامتنعت عن إدانة الاجتياح العسكري، مذكرةً بمحاولة الغرب تطويق روسيا عبر تحريك بيادق «الناتو» في اتجاه حدودها. وفي المقابل، وقعت روسيا في عزلة غربية مرشحة للاستمرار، خصوصاً في غياب أي أفقٍ لوقف الحرب قريباً. ولهذه العزلة أثمانٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ وتكنولوجية لا يكفي الاتكاءُ على الجار الصيني لإزالة آثارها. لقد خسرت روسيا قدرتهَا على المناورة بين القوى الدولية. لن تختارَ الصين الغرقَ معها إذا بدا أنَّها تغرق، حتى لو لم تكن لبكين مصلحة في هزيمة روسية صريحة.
منذ سنوات يحذر كيسنجر من مسار يضع أميركا والصين على طريق مواجهة حتمية. وهي مواجهة لا قدرةَ للعالم على احتمالها. أي طلاق اقتصادي كامل بين الغرب والصين سيدفع الاقتصاد العالمي نحو انهيارات مروعة. أيُّ مواجهةٍ عسكرية بين العملاقين ستكون وخيمةَ العواقب على العالم بأسره. ربما لهذا السبب اختار رجلُ الصين القوي إطلاق رسالة استعداد لتنظيم تعايش في العقود المقبلة.
عددُ زياراتِ كيسنجر للصين يوازي سنوات عمرِه. لكنَّ زيارتَه الحالية قد تحجز موقعَها في التاريخ، إذا استنتجت أميركا أنَّ من حق الصين أن تحتلَّ موقعاً يشبه في جانب منه، الموقعَ الذي كانَ يحتله الاتحاد السوفياتي. أمَّا بلادُ بوتين فإنَّ موقعها مهددٌ بالتراجع، حتى لو قام عالمٌ متعددُ الأقطاب.
غسان شربل
الشرق الأوسط