الأزمة الروسية-الأوكرانية: هل تعيد تركيا توجيه بوصلتها غربًا؟

الأزمة الروسية-الأوكرانية: هل تعيد تركيا توجيه بوصلتها غربًا؟

رغم حرص تركيا منذ اندلاع الأزمة الروسية–الأوكرانية على ممارسة دور حيادي في الوساطة بين الجانبين، إلا أنه لم يكن من الصعب ملاحظة تنامي العلاقات التركية–الروسية خلال تلك الأزمة على كافة الأصعدة الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، في مقابل توتر العلاقات التركية–الأمريكية، وتعثر محاولات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي عزز التكهن باستمرار تنامي العلاقة بين الجانبين التركي والروسي خلال الحقبة الجديدة من ولاية أردوغان الثالثة، باعتبارها امتدادًا لنفس شبكة السياسات والمصالح التي تجمع بين الجانبين.

لكن الأمر الذي بات لافتًا هو أن هناك تغيرًا يطرأ على سياسة أنقرة تجاه أطراف الأزمة، يطرح العديد من التساؤلات حول ما إذا كنا بالفعل بصدد حقبة جديدة من السياسة الخارجية التركية؟، أم أنها مجرد إجراءات لإحداث توازن بين روسيا والغرب، وكسب أوراق ضغط وتفاوض جديدة تضمن لتركيا جني المزيد من المكاسب من طرفي الصراع، لاسيما أن أنقرة تعتبر هي اللاعب الأساسي في حل أزمتي الطاقة والغذاء في العالم، وتعتبر حليفًا حيويًا ومؤثرًا على المستويين الإقليمي والدولي، ما يجعل من الصعب التخلي عن شراكتها، أو معاداتها.

مؤشرات عديدة
تبنت تركيا مؤخرًا مجموعة من الإجراءات التي اعتبرت بمثابة تخلي عن سياسة الحياد التي تبنتها تجاه طرفي الأزمة الروسية–الأوكرانية، وانحيازًا نحو معسكر الغرب، الداعم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

1-تطوير قنوات التواصل مع أوكرانيا: للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة الروسية–الأوكرانية، توجه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي إلى مدينة اسطنبول يوم 7 يوليو 2023، للقاء نظيره رجب طيب أردوغان، بناء على دعوة رسمية وجهها له الأخير، وذلك-حسب المُعلن-لبحث عدد من القضايا والملفات الشائكة بين الجانبين، والتي من بين أبرزها: مصير صفقة الحبوب التي انتهت يوم 17 يوليو 2023، وملف تبادل الأسرى مع روسيا، فضلاً عن مناقشة طلب أوكرانيا بشأن انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”.

ورغم أن تلك الزيارة تعتبر-ظاهريًا-إجراء دبلوماسيًا تقليديًا بين بلدين يشتركان في عدد من القضايا السياسية والاقتصادية الهامة، لاسيما في ضوء لعب تركيا دور الوساطة الرئيسي في الأزمة الروسية–الأوكرانية منذ اندلاعها، إلا أن توقيت الزيارة ومخرجاتها جعلها تبدو بمثابة انحياز تركي تجاه الجانب الأوكراني في مرحلة زمنية شديدة الحساسية والأهمية بالنسبة لروسيا.

إذ جاءت الزيارة عقب تمرد قوات “فاغنر” على الرئيس الروسي فيلادمير بوتين، وما كان له من تداعيات سلبية على مدى تماسك المؤسسة العسكرية الروسية. كما سبقت-مباشرة-قمة “الناتو” التي انعقدت في ليتوانيا يومي 11 و12 يوليو 2023، والتي كان من المُقرر خلالها مناقشة توسيع قاعدة الحلف بضم كل من السويد-بموافقة تركية-، وأوكرانيا التي لا تزال مسألة ضمها محل خلاف بين دول أعضاء الحلف.

أما من حيث مخرجات الزيارة، فمن جانبه أكد الرئيس التركي استحقاق أوكرانيا الانضمام إلى حلف “الناتو”، وهو ما يعتبر تهديدًا مباشرًا لروسيا، لأن انضمام أوكرانيا إلى الأطلسي يعتبر بمثابة تصعيد عسكري ضد روسيا من قِبل دول الحلف، حيث وصف رئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الاتحادي الروسي فكتور بونداريف دعوة تركيا بشأن انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” بأنها “تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية”[1]. كما أكد أردوغان على استعداد بلاده للتعاون الثنائي المشترك في إعادة إعمار أوكرانيا، واستعداد الشركات التركية للاستثمار والعمل في هذا الإطار. فضلاً عن توقيع الجانبين على اتفاقات لتعزيز التعاون بين البلدين في مجال الدفاع، بما يشمل الصناعات العسكرية، ومنها بناء مجمع عسكري لتصنيع المسيرات التركية “بيرقدار” في أوكرانيا، والتي تعتبر أحد أهم الأسلحة التي تستخدمها الأخيرة في حربها ضد روسيا.

2- انتهاك اتفاقية “تبادل الأسرى” مع روسيا: اعتبرت عودة زيلينيسكي بـ 5 قادة من كتيبة “آزوف” الأوكرانية التي تُصنفها روسيا منظمة إرهابية-دون إخطار مُسبق لموسكو بتلك الخطوة-بمثابة اختراق مباشر لاتفاقية تبادل الأسرى التي أبرمتها كل من روسيا وأوكرانيا وتركيا في سبتمبر عام 2022. فبموجب بنود الاتفاق تسلمت روسيا 56 أسيرًا، في مقابل تسلم أوكرانيا 215 من بينهم القادة الـ 5 من كتيبة “آزوف” على أن يبقوا في تركيا إلى أن تنتهي الحرب[2].

وتُمثل هذه الكتيبة أهمية تاريخية خاصة بالنسبة للجانب الروسي، لاسيما أنها قاتلت لأول مرة إلى جانب الجيش الأوكراني في شرق البلاد عام 2014 ضد الانفصاليين الموالين لروسيا، حتى أصبحت بعد ذلك جزءًا من الحرس الوطني الأوكراني، بعد أن نجحت في استعادة مدينة ماريوبول ومينائها الاستراتيجي من القوات الموالية لروسيا. إذ أن تلك الكتيبة تعتبر من مُسوغات العملية العسكرية التي شنها بوتين ضد أوكرانيا، بزعم أن عناصرها تنتمي للنازيين الجدد، وتمارس أعمال عنف وإبادة جماعية ضد الروس في شرق أوكرانيا، حيث أعلن بوتين في أكثر من مناسبة منذ اندلاع الحرب أن روسيا تقاتل الإرهابيين وتعمل على اجتثاث النازيين الجدد من أوكرانيا[3].

3- موافقة تركيا على انضمام السويد إلى “الناتو”: أعلن السكرتير العام لحلف “الناتو” جينس ستولتنبيرغ، يوم 11 يوليو 2023، قبول انضمام السويد عضوًا بالحلف، وذلك بعد إعطاء تركيا الضوء الأخضر للسويد والموافقة على انضمامها إلى “الناتو”، من خلال سحب الفيتو الخاص بها، وإحالة بروتوكولات الانضمام إلى البرلمان للمصادقة عليها.

ويأتي هذا التحول اللافت في الموقف التركي بمثابة خطوة اعتبرها البعض توددًا إلى المعسكر الغربي، واعتبرها البعض الآخر صفقة لمحاولة الخروج ببعض المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية، لاسيما أن تلك الموافقة جاءت في سياق المطالبة بإعادة فتح ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والحصول على الدعم الأمريكي في هذا الشأن، إلى جانب المطالبة بتعزيز السويد لأنشطتها في مجال مكافحة الإرهاب والتوقف عن دعم عناصر “حزب العمال الكردستاني”، ورفع قرار حظر توريد المعدات العسكرية إلى تركيا[4].

مكاسب مُرتقبة
لا يمكن اعتبار تحركات تركيا المُنحازة للغرب، والتي لا تعتبر فقط غير مُرضية للجانب الروسي، بل استفزازية له أيضًا، مجرد تحركات عبثية أو غير محسوبة العواقب. ففي واقع الأمر يسعى أردوغان من خلال اتخاذ سياسات مُغايرة لتلك التي تبناها على مدار السنوات الأخيرة، وإعادة ترتيب أوراق سياسته الخارجية لتوسيع وتنويع دائرة شركائه، إلى جني المزيد من المكاسب خلال المرحلة القادمة، بما يدعم ولايته الجديدة في تركيا، ويزيد من نفوذ بلاده العسكري والأمني في المنطقة، وذلك ما يمكن استعراضه في ضوء عدة ملفات على النحو التالي:

1- تحديث القوة العسكرية التركية: قوبلت موافقة تركيا على انضمام السويد إلى حلف “الناتو”، باعتبارها خطوة من شأنها أن تُسهم في تعزيز قوة الحلف العسكرية، بترحيب الولايات المتحدة الأمريكية، وجعلت اللهجة الأمريكية أكثر إيجابية مع تركيا فيما يخص صفقة الطائرات F-16، حيث جاءت تصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، مؤكدة على أن بايدن يُخطط للمُضي قدمًا في نقل طائرات F-16 جديدة إلى تركيا بالتشاور مع الكونجرس[5]. كما كشف رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي عن نيته للتراجع عن اعتراضه على استمرار صفقة المقاتلات مع تركيا.

وعلى صعيد آخر، أفضت التسوية بين تركيا والسويد، إلى إلغاء كافة القيود والحواجز بين الجانبين، وفتح ملف التعاون في قطاع العلاقات العسكرية ودعم الصناعات الدفاعية، والاتفاق على تعزيز التقارب بشكل أكبر من خلال رفع الحظر عن توريد المعدات العسكرية إلى تركيا.

2- الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي: على الرغم من صعوبة حصول أردوغان على موافقة الاتحاد الأوروبي بشأن مسألة انضمام بلاده إلى الاتحاد، لأسباب سياسية وثقافية وتاريخية، إلا أن موافقة تركيا على انضمام السويد إلى حلف الأطلسي، ومن قبلها فنلندا، فضلاً عن دعم حق أوكرانيا في الانضمام إلى الحلف، من شأنه-على أقل تقدير-أن يُعيد فتح بعض الملفات العالقة بين الجانبين، مثل تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وتسهيل عملية حصول المواطنين الأتراك على تأشيرة دخول دول الاتحاد.

3- الأكراد: في إطار تعديل السويد لدستورها وتغيير قوانينها بشأن جهود مكافحة الإرهاب، أصدرت الحكومة السويدية حزمة من القرارات الأمنية التي تُفضي بإيقاف دعم ميليشيا وحدات الحماية الكردية في سوريا، وتتبع المُنتمين لحزب “الاتحاد الديمقراطي” داخل الحدود السويدية، وذلك باعتبارهما امتدادًا سياسيًا وعسكريًا لـ “حزب العمال الكردستاني”، الذي تصنفه تركيا تنظيمًا إرهابيًا. هذا، فضلاً عن التعهد بوقف دعم عناصر حركة المعارض التركي فتح الله جولن، التي تصنفها تركيا حركة إرهابية، وتتهمها بالوقوف خلف محاولة الانقلاب عام 2016.

4- المكاسب الاقتصادية: يسعى أردوغان من خلال التقارب مع الغرب، إلى الحصول على مكاسب اقتصادية واستثمارية، من خلال تعزيز العلاقات التجارية مع الغرب، وتحفيز مسارات وفرص الاستثمارات الأجنبية، في مواجهة أزمة الركود الاقتصادي التي تشهدها البلاد، والتي كان جزء كبير منها بسبب العلاقات المتوترة بين تركيا والغرب وانسحاب العديد من المستثمرين الغربيين من السوق التركية، مما ساهم في إيقاف تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى البلاد. خاصة أنه ليس من مصلحة دول أوروبا أن يتدهور الاقتصاد التركي، وبالتالي تهديد مصير صفقات الطاقة والغذاء، التي تلعب فيها تركيا دورًا محوريًا، والتي تُسهم في تخفيف حدة التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية–الأوكرانية.

ختامًا، يمكن القول إن تداعيات الإجراءات الأخيرة التي تبناها أردوغان، سواء فيما يخص زيارة زيلينسكي ومخرجاتها، أو فيما يخص الموافقة على انضمام السويد إلى “الناتو”، سوف تكون مباشرة على العلاقات التركية–الروسية، دون أن ينفي ذلك أن المصالح المشتركة بين الطرفين في بعض الملفات الأخرى، مثل الملف السوري، سوف تضع حدودًا للتوتر الذي يمكن أن يفرض نفسه العلاقات بين الجانبين خلال المرحلة القادمة.

مركز الأهرام للدراسات