حقيقة أزمة بوتين الأمنية

حقيقة أزمة بوتين الأمنية

أحد أهم الأسئلة المتصلة بتمرد قائد مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين يتعلق بضعف الجاهزية البالغ الذي أظهره تجاهه الجهاز الأمني ذو النفوذ الكبير في روسيا، الـ”أف أس بي” (الأمن الفيدرالي الروسي). فهذا الأخير، ويعد جهاز الأمن الداخلي الأساسي الذي يديره الكرملين، كان منذ زمن تولى اتخاذ خطوات “وقائية” وصارمة لإجهاض أي تهديد للدولة قبل تبلوره. وللجهاز المذكور مخبرون حتى داخل وكالة “فاغنر” نفسها.

بيد أنه، على ما ظهر، لم يبادر إلى ما من شأنه إخماد التمرد قبل حصوله، أو لتحذير الكرملين من خطط بريغوجين. وبعدها، حين أقدمت قوات “فاغنر” على خطوتها، أخفق كلا الجهازين، الـ”أف أس بي” و”الحرس الوطني الروسي”، وهذا يعد طرفاً أساسياً مولجاً بحفظ الأمن الداخلي وكبح أي اضطراب في روسيا، إخفاقاً ذريعاً في الرد السريع على التمرد. وبذل الحرس الوطني وسعه لتجنب المواجهة المباشرة مع “فاغنر”.

أما جهاز الـ”أف أس بي”، في المقابل – وهو يضم مجموعات من القوات الخاصة وقوات النخبة – فلم يحرك ساكناً. وبدلاً من المبادرة، أصدر الجهاز المذكور، وهو الوكالة الأمنية الأقوى في البلاد، بياناً صحافياً دعا فيه أصحاب الرتب والعناصر في “فاغنر” إلى عدم المشاركة في التمرد، واغتيال بريغوجين من تلقائهم.

ولم يكن رد “استخبارات الجيش الروسي”، الـ”جي آر يو” (GRU)، على مغامرة “فاغنر” أقل غرابة. ففي اللحظة التي اقتحمت فيها قوات “فاغنر” مقر قيادة الحرب الروسية على أوكرانيا، في رستوف – أون – دون، كان بريغوجين يجتمع إلى يونوس بيك يفكوروف، نائب وزير الدفاع، وفلاديمير أليكسييف، النائب الأول لرئيس استخبارات الجيش (الـGRU). وبدا الأخير (أليكسييف) يوافق مع قائد “فاغنر” (في عز تمرده) على حقيقة وجود مشكلة مع قيادة الجيش الروسي. وحين قال بريغوجين إنه يريد جلب وزير الدفاع سيرغي شويغو والجنرال فاليري غيراسيموف، قائد القوات الروسية في أوكرانيا، ليسمع منهما، على ما بدا، أجوبة تتعلق بما ارتكباه من أخطاء، ضحك أليكسييف، وأجاب: “يمكنك جلبهما!”، وبعد وقت قصير من بث هذا الحديث، قال لنا عضو في القوات الخاصة الروسية إن “أليكسييف على حق”.
واليوم، يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معضلة عقب أزمة بريغوجين. فبات واضحاً، الآن، أن الخطر الأكبر على نظامه ليس مصدره، ربما، تمرد بريغوجين نفسه، بل رد الجيش والأجهزة الأمنية على التمرد، لذا على بوتين، الآن، ابتكار نهج للتعامل مع الفشل الذريع الذي منيت به قوى الاستخبارات وأجهزة الأمن، من غير أن يبعث شكوكاً جديدة في سيطرته على السلطة. إلا أنه، على نحو يختلف عن الأزمة السابقة، قد لا يكون في وسعه بعد اليوم الاعتماد على وكالات الأجهزة الأمنية التي طالما استخدمها في ضمان استقرار نظامه السياسي.

مكامن التعاطف

لم يكن الخطر الذي مثله تمرد بريغوجين ذا علاقة بقدرات “فاغنر” المتواضعة. وعندما أعلنت هذه القوات نصرها في باخموت، في مايو (أيار)، اعتبر بريغوجين أن الأمر انتصار أساسي في معركة دامت أشهراً، وعظم ذلك طموحاته إلى حد خطر، بيد أن باخموت، في الواقع، لم تكن أكثر من نجاح محلي محدود، وقيمته موضع تساؤل. وفي الأسابيع التي تلت، بعد انطلاق الهجوم الأوكراني المضاد، بات ذاك النصر ذكرى بعيدة. ولم يكن لـ”فاغنر” دور يذكر في مواجهة الهجوم (الأوكراني) المضاد، وتقلصت أهمية مرتزقة بريغوجين – على رغم قدراتهم التي روج لها كثيراً – في الحرب الدائرة مقارنة بالربيع الماضي.

لقد حصل التمرد فعلاً في اللحظة ذاتها التي بدأ فيها نفوذ “فاغنر” يتضاءل، بينما شرعت قيادة الجيش الروسي تكتسب ثقة متجددة. ومع بدء الهجوم الأوكراني المضاد، متباطئاً، ساد انطباع متعاظم بأن الدبابات الأوكرانية، وغيرها من الأسلحة المتطورة الغربية الصنع، أكثر هشاشة مما كان متوقعاً. وأشار الضباط الروس في تقاريرهم إلى أن معنويات الجيش تتحسن. وبطلت النظرة التي كانت ترى أن مقاتلي “فاغنر” القوات الوحيدة الفعالة في الجانب الروسي.

وهذه التصورات المتغيرة ينبغي أن لا تفاجئ أحداً. ومنذ شن روسيا اجتياحها الشامل لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، والجيش الروسي يتقلب بين أمزجة مختلفة، وانحسرت حماسة بداية الحرب، مثلاً، وأعقبها ارتباك شديد جراء فشل الحملة الأولى الذريع. وفي صيف 2022، استعاد الجيش بعض الثقة في الشرق، لكنه تلقى صدمة الهجوم الأوكراني المضاد الرئيس الأول، وخسارة خيرسون. وتجدد شعور الثقة بعدها، مع تنظيم الجيش صفوفه وسط توقعات حصول هجوم روسي كبير شتاءً – لكن ذلك لم يثمر سوى خيبة أمل أخرى نتيجة الفشل في تحقيق أي تقدم. وأعقب ذلك النصر المكلف في باخموت، وهو اقتضى إنجازه وقتاً طويلاً. ومرة أخرى، ساد قلق عميق، بينما راحت روسيا تنتظر الهجوم الأوكراني المضاد الكبير.

تمرد “فاغنر” فتح الباب للانتقادات داخل روسيا.

كانت حظوظ روسيا المتذبذبة المتأرجحة في أوكرانيا قادت، قبل تمرد بريغوجين، إلى حال من الغموض والغرق في نفحات صوفية متفاقمة داخل الجيش، وفي أوساط ضباطه وقياداته. فسمى هؤلاء الكتائب العسكرية بأسماء القديسين، وراح العسكريون ينشرون، أكثر فأكثر، صور الأيقونات ونصوص الصلوات على “تيليغرام”. وتعاظمت حظوة الرهبان المناصرين للحرب في أوساط الجمهور، لكن التذبذب قوض في قيادة الجيش. والحق أن هذا مشكلة تاريخية مزمنة في الجيش الروسي، فكان عليه أن يواجه أزمة معنويات مدمرة قبيل نهاية حرب القرم سنة 1856، وفي الحرب اليابانية – الروسية في 1904-1905، وفي الحرب العالمية الأولى، وغداة اجتياح هتلر للاتحاد السوفياتي سنة 1941، وأخيراً في حربي أفغانستان والشيشان.

وعلى هذا، جدد تمرد بريغوجين فرصة محاسبة قيادة الجيش الروسي. وعلى نحو توسل بريغوجين موقعه كقائد لـ”فاغنر”، أشار أليكسييف، نائب رئيس الاستخبارات العسكرية، بدوره، إلى أن الانتقاد قد يصدر من الداخل (داخل الجيش). ولم تكن انتقادات أليكسييف مجرد ملاحظات عابرة – بل هي كشفت مدى صعوبة وضع فاغنر. وأليكسييف واحد من أقوى الجنرالات نفوذاً داخل الاستخبارات العسكرية. وإلى ذلك، فهو أحد مؤسسي “فاغنر”، وله خبرة واسعة ومديدة في الإشراف على القوات الخاصة الروسية، ويتمتع باحترام وحداتها، على ما تقول مصادر معلوماتنا.

وملاحظات أليكسييف تدل على أن بعض العسكريين يتبنون مواقف بريغوجين، وقرينة على أن انتقاد قيادة الجيش يتردد صداه في صفوف هذه القيادة. وإحجامهم عن دعم تحرك “فاغنر” لا تحجب أن بعض عناصر هذه الشريحة داخل الجيش انتبهوا إلى أن ثمة مجالاً للكلام في الأخطاء التي ترتكب في مسار الحرب. لذا، كسر أليكسييف الصمت الرسمي عن قيادة الجيش الروسي، وما بدا مستحيلاً صار متاحاً.

وخاطب بوتين، الرأي العام (الروسي) حال انتهى التمرد. وهو لم يظهر قلقاً كبيراً من بريغوجين، وكان الجيش نفسه مصدر قلقه. ورمى خطابه الحاد إلى إبلاغ القوات المسلحة أنه يعتبر بريغوجين خائناً، وأنه ليس أمام الجيش والقوات المسلحة خيار غير إبعاد أنفسهم عنه وعن أقواله. ولم يخطئ بوتين الحساب – فهو أراد عزل “فاغنر” عن الجيش والأجهزة الأمنية، ونجح فيما أراد، إلى الآن، على ما يبدو.

ولا شك في أن بوتين شرع الأبواب، على المدى البعيد، أمام تحديات جديدة وجوهرية لاستقرار نظامه السياسي. فهو نجح في إنهاء التمرد، غير أن انتقادات مثل تلك التي تصدر عن جنرالات في أعلى هرم القيادة لن تتوقف، بل يرجح تفاقمها وانتشارها. فإسقاط قوات “فاغنر” 13 طائرة للجيش الروسي بطياريها، وغياب شويغو وغيراسيموف في أثناء الأزمة، لم يسهما إلا في زيادة مشاعر السخط في صفوف القوات البرية الروسية. ويبعث هذا على السؤال: ماذا يترتب على تكبد روسيا مزيداً من الإخفاقات في الحرب، في موازاة ميل المزاج العام داخل الجيش إلى موقف سلبي؟

حالة من انعدام الأمن

وليست مسألة معنويات الجيش الروسي إلا مسألة من مسائل كثيرة ينبغي أن تقلق بوتين. فمعاملته الأجهزة الأمنية عقب الأزمة قد تهدد بالخطر موقعه في السلطة. فهو بقي متماسكاً إلى الآن. وعلى رغم انتشار إشاعات على نطاق واسع في موسكو عن عمليات قمع التمرد، فإنها اقتصرت على الجيش وحده. فبوتين لم يتعرض لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي ولا للحرس الوطني. وبدلاً من مهاجمة قادة الـ”أف أس بي” والحرس (الوطني) على خذلانهم له في الأزمة، بدا حازماً أمره على ألا يفعل شيئاً، أو مصراً على توسيع نفوذ هذين الجهازين. ويأمل الحرس الوطني في تعزيز موقعه بواسطة تخويله الحصول على دبابات يستخدمها في عملياته.

والإقلاع عن أضعف محاسبة أو مراجعة للأجهزة الأمنية في هذا الإطار (عقب تمرد فاغنر)، يعد أمراً مذهلاً قياساً على أداء جهاز “الأمن الفيدرالي” في الأزمة. وعندما احتل بريغوجين مراكز قيادة القطاع العسكري الجنوبي – حيث اجتمع إلى يفكوروف وأليكسييف وحادثهما – بدا الأمر أشبه بعملية أخذ رهائن، هم بعض أرفع القادة العسكريين الروس. وبحسب مصادر في جهاز “الأمن الفيدرالي”، ورداً على وصول قوات “فاغنر”، حصن عناصر الـ”أف أس بي” في روستوف – أون – دون أنفسهم داخل مركزهم المحلي الرئيس. وكثر من كبار المسؤولين في إدارة بوتين اختفوا في أثناء الأزمة، ومنهم رئيس المجلس الأمني نيكولاي باتروشيف، وقائد جهاز الأمن الفيدرالي (أف أس بي) ألكسندر بورتنيكوف. وفيما تقدم رتل من مرتزقة “فاغنر” في اتجاه موسكو، وأسقط طوافات للجيش، أطلق النار على بيوت المدنيين في طريقه، فشل الجنرالات الشجعان في الخروج إلى العلن – وبقوا خارج المشهد، ونأوا بأنفسهم عن الرأي العام.

لقد أصيبت الأجهزة الأمنية بالشلل في لحظة الأزمة الوطنية.

يبدو هذا صادماً، لكنها لم تكن المرة الأولى التي تصاب فيها الأجهزة الأمنية الروسية بالشلل في خضم أزمة وطنية. ففي أثناء المحاولة الانقلابية، سنة 1991، قامت مجموعة من كبار المسؤولين الشيوعيين، بقيادة رئيس جهاز الـ”كي جي بي”، بالحجز على الرئيس ميخائيل غورباتشوف في دارته الصيفية بالقرم. وعلى رغم فشل خطتهم للاستيلاء على السلطة، وخروج عشرات آلاف الناس إلى الشوارع للدفاع عن حريتهم، اختار ضباط الـ”كي جي بي” تجنب الانخراط في النزاع والتزموا منازلهم. واكتفى الضباط المداومون في مركز الـ”كي جي بي” الرئيس في لوبيانكا، بتلك الليلة، بالتحصن في مبنى قيادتهم ومراقبة الحوادث من نوافذهم.

وفي سنة 2004، عندما قام إرهابيون باحتجاز أكثر من ألف طفل ومعلميهم رهائن في مدرسة في بيسلان، شمال أوسيتيا، بدا الرد الذي اعتمده كبار الجنرالات الروس صادراً عن مشاعر خوف ويأس. رافق باتروشيف، الذي كان حينها مديراً لـ”أف أس بي”، وزير الداخلية آنذاك، رشيد نورغالييف، إلى مطار المدينة، حيث اجتمعا سراً، ثم هرعا عائدين إلى موسكو. وأصاب خوف شديد المسؤولين آنذاك، حملهم على ترك الأمر بيد الفرع المحلي للأمن الفيدرالي، الذي لم يكن مؤهلاً بأي شكل من الأشكال للتعامل مع حدث إرهابي بهذا الحجم. وفي نهاية المطاف قتل أكثر من 300 شخص، بينهم أطفال كثر. ولم يعاقب بوتين أولئك المسؤولين، بل عين باتروشيف ونورغالييف، بعد كل تلك السنوات، عضوين في مجلس الأمن الروسي.

نجوا بفعلتهم

وللمرة الأولى منذ أكثر من 20 سنة في السلطة، أخفق تاريخ بوتين في الـ”كي جي بي” في خدمته. وبوصفه ضابطاً في الـ”كي جي بي” لم يبادر إلى حفظ النظام السياسي الذي أقسم على حمايته، ويبدو مستعداً لتجاوز الأعذار التي تعلل بها جنرالات الأمن الفيدرالي اليوم تفسيراً لفشلهم في التحرك وإنهاء التمرد في مهده. وقد تشن حملات تطهير، وعندما عزم بوتين، في الأزمات السابقة، على إحداث تغيير، نفذه على نحو مباغت وسريع. تدحرجت ففي سنة 2004، مثلاً، عندما سيطر المقاتلون الشيشان على إنغوشيا وقتاً قصيراً، تدحرجت الرؤوس في جهاز الأمن الفيدرالي بين ليلة وضحاها.

وإلى اليوم، ليس بريغوجين وحده من لم يعاقب، بل تشاركه الإفلات من العقاب الأجهزة الأمنية التي يفترض أنها كانت تحمي بوتين من هكذا أخطار. وهذا النهج في تثبيت حاكم سيطرته على السلطة، مستهجن وغريب. وقد يعتبر بوتين، في المدى المنظور، ذلك طريقة مثلى للتقليل من شأن الأزمة وتجاوزها، لكن أجهزته الأمنية لن تكون قادرة على حمايته من طوارئ الوضع الجديد. فالجيش بات معرضاً للانتقادات، وضعفت سلطته في مواجهة تحديات وانتقادات متفرقة. وإذا استمرت التحديات والانتقادات على هذه الوتيرة، فلن يكون الجيش وحده هدفها، فقد تتناول موقع بوتين في السلطة.

اندبندت عربي