نشرت تقارير صحافية، أخيراً، في الولايات المتحدة تتهم قوات “فاغنر” الموجودة في بيلاروس، بأنها تدرب قوات الجيش البيلاروسي على عمليات “كوماندوس” قد تشن على الحدود مع بولندا وليتوانيا. وأعلنت وزارة الدفاع البولندية أنها نشرت مزيداً من القوات على حدودها مع بيلاروس، وكذلك أعلنت ليتوانيا أنها ستقوم بتعبئة قواتها في حال زادت الأمور خطورة على الحدود. أما في واشنطن وبروكسل فأوساط الدفاع والأمن القومي بدأت استشاراتها شبه العلنية حول احتمالية سيناريو كهذا في حال حصوله. فإن حصلت اشتباكات، أو حتى عمليات عبر حدود “الناتو”، فذلك سيحرك “أوتوماتيكياً” البند الخامس من التحالف الأطلسي، ويعني تدخلاً عسكرياً مباشراً لـ”الناتو” ضد روسيا في ما قد يتحول لحرب عالمية.
من ناحيتها، تتهم موسكو بولندا وليتوانيا، وخلفهما الولايات المتحدة، بالحشد لشن هجوم عبر بيلاروس لمهاجمة القوات الروسية في شرق أوكرانيا وفصلهم عن الداخل الروسي. وتعتبر موسكو أن إقحام بولندا التي تسلحها الولايات المتحدة بأفضل تسليح في مواجهة مع القوات البيلاروسية يهدف إلى فتح جبهة جديدة في شمال أوكرانيا، وزج الجيش البولندي الكبير والمعدوم أطلسياً في الحرب الدائرة لإنهاك روسيا واستهداف بيلاروس وجر دول البلطيق إلى الحرب، وربما أيضاً فنلندا التي دخلت أخيراً إلى الحلف. إذاً، الطرفان يقرعان طبول الحرب المحتملة، في حال استمر التصعيد. الغرب يسعى إلى إخراج “فاغنر” من بيلاروس ويتهم الكرملين بتحضير حرب، وروسيا تطلب وقف الحشد البولندي الأطلسي على حدود بيلاروس وتتهم “الناتو” بالتهيئة لحرب أخرى ضد موسكو، بالتالي فالوضع متفجر ويمكن أن يشتعل ما لم تضبط واشنطن وموسكو الانزلاق، ولكن هل هنال أجندات أعمق لدى الأطراف؟
الأجندات الرمادية
الاتهامات المتبادلة بين الكرملين ووارسو، ومن خلفها بروكسل وواشنطن، تلقفتها الأوساط التي تحاول أن ترى ما هو أبعد وأكثر رمادية مما يقال في العلن. وبعض هذه الأوساط توصف أحياناً بأنها صاحبة نظرية المؤامرة (Conspiracy Theory)، ولكنها بالفعل تدمج ما هو واقع فعلاً بما تتخيله هي. لذا يصعب على المحللين تنقية التقارير بين الصالح والطالح، ومن بين تلك التقارير والروايات رزمتان تم ربطهما بالطرفين. تقرير يزعم أن الصناعات العسكرية في الغرب والمصالح المرتبطة بالحروب تسعى إلى “إطالة” الحرب الأوكرانية عبر توسيعها إلى بيلاروس، مما سيؤدي إلى إضافات كبيرة في التسليح لبولندا والبلطيق، كما حصل مع أوكرانيا، فينجم عن ذلك أرباح طائلة لهذه الصناعات توفرها صناديق دافعي الضرائب الأميركية.
وفي المقابل، تزعم تقارير مناهضة أن الصناعات العسكرية الروسية هي التي تضغط على موسكو لتصعد مع بولندا ودول البلطيق لمواجهات ستتطلب ميزانيات أكبر من أجل تسليح وتجهيز أوسع، بالتالي تجري عمليات بيع نفط وغاز أكبر للصين والهند وغيرها للحصول على السيولة. أصحاب تلك النظريات يؤكدون أن كلا الطرفين يريد توسيع الحرب من أوكرانيا إلى بيلاروس لأسباب مالية بحتة، أي بهدف الكسب. المعسكران لهما مصالح أمن قومي التي تسمح أو لا تسمح بوضع المصالح الربحية قبل اعتبارات الأمن القومي. وأصحاب نظرية المؤامرة يصرون على أسبقية المصلحة الربحية قبل مصلحة الأمن القومي. أما الجواب فقد يكون في مكان ما في منتصف الطريق.
مسألة أعمق
إلا أن قراءتنا التاريخية للصراعات القومية والجغرافية بين الطرفين، وبخاصة بين روسيا وبولندا، ولم ينتبه إليها كثيراً الرأي العام، وقد تتحول إلى أكبر فتيل لصراع مدمر لا يمكن إيقافه إذا بدأ، هي مقاطعة كالينينغراد الواقعة بين بولندا وليتوانيا على بحر البلطيق، والمعزولة جغرافياً عن الأراضي الروسية الوطنية شرقاً. هذه المقاطعة الروسية المعزولة بين عضوين في الحلف الأطلسي، لا يمكن للروس أن يصلوا إليها براً إلا عبر خط الحدود البولندية – الليتوانية الذي يمتد من غرب أوكرانيا. وارتكازاً على التقارير الميدانية وقراءة الخرائط الجيوسياسية، فالمعادلة الأعمق لسيناريو حرب محتملة جديدة شمال أوكرانيا، لن يعود إلى أسباب أوكرانية أو مالية نفعية، بل إلى ملف جغرافي – تاريخي غارق بين الدولة الروسية والدولة البولندية، وهو الصراع حول مستقبل كالينينغراد. الكرملين والمخططون الاستراتيجيون الروس قلقون من قيام بولندا وليتوانيا اللتين “تحاصران” كالينينغراد جغرافياً بـ”اجتياح” المقاطعة في عملية خاطفة إذا اندلعت حرب بين الدولتين من ناحية، وبين بيلاروس وروسيا من ناحية ثانية. وفي الوقت نفسه، للمفارقة، تخشى بولندا وليتوانيا أن روسيا هي التي تخطط لهجوم خارق عبر حدود الدولتين لتربط بيلاروس بكالينينغراد، كما حصل في القرم عام 2014 وفي أوكرانيا عام 2022.
الكرملين أرسل مجموعة “فاغنر” وقائدها إلى بيلاروس لتدريب جيش مينسك، وباتت قوات “فاغنر” على مقربة من نقطة الحدود المقابلة لكالينينغراد. القوات البولندية، تقابلها الوحدات الليتوانية، تقترب من وجود “فاغنر” ضمن الأراضي البيلاروسية. وارسو تسلمت دبابات وطائرات أميركية، وعلى أراضيها تنتشر قوات أميركية ثقيلة. القيادة الروسية داخل كالينينغراد تمتلك أسلحة نووية تكتيكية. الأسطولان الروسي والأطلسي يوجدان في بحر البلطيق، لذا فأي اشتباك بين “فاغنر” أو قوات روسية على حدود بولندا مع وحدات أطلسية قد يؤدي إلى حرب شرق أوروبية ثانية ستمتد نارها إلى آلاف الكيلومترات شرقاً وغرباً. كالينينغراد هي الاسم الذي يجب ألا يزج في الأخبار، لأنه إذا بدأت حربها لن يعرف أحد كيف تنتهي.
اندبندت عربي