أية آمال حملها مؤتمر “بريكس” للبشرية؟

أية آمال حملها مؤتمر “بريكس” للبشرية؟

اتجهت الأنظار في الأسبوع المنصرم الى مؤتمر دول بريكس الذي انعقد في جوهانسبرغ، العاصمة التجارية لجنوب أفريقيا وبرعاية هذه الدولة. وقد غلب على المؤتمر الذي شارك فيه نحو 40 رئيس دولة وحكومة طابع سياسي واحتفالي، وتكرّرت فيه الدعوات إلى عالم متعدّد الأقطاب، والتحذير من عودة عقلية الحرب الباردة، وزيادة التحدّيات الجيوسياسية التي تهدّد عالمنا. وقد أولى المؤتمر الذي استغرق انعقاده ثلاثة أيام، واختُتم الخميس 24 أغسطس/ آب الجاري، وقد أبدى اهتماما كبيرا بمسألة توسيع عضويّته، وأفسح المجال لضم ستة أعضاء جدد: الأرجنتين وإثيوبيا وإيران ومصر والسعودية والإمارات، من جملة 23 دولة تقدّمت للعضوية.

ورغم أن المجموعة ذات اهتمام اقتصادي في الأساس لمواجهة مجموعة السبع الصناعية، إلا أنها انفتحت على فكرة إسباغ طابع سياسي عليها، وكان لمشاركة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في المؤتمر قيمة رمزية كبيرة، نظرا إلى اشتداد التنافس الصيني الأميركي، وقد حملت القمّة اسم قمّة أفريقيا، وتمت دعوة جميع الدول الأفريقية إلى المؤتمر، وليس إلى عضوية المجموعة بعد التي تضم نحو 40% من سكّان العالم و17% من الاقتصاد العالمي. وقد لوحظ تشديد الرئيس الصيني “على ضرورة أن تلعب دول بريكس دورا في حلّ النزاعات عبر الدبلوماسية”، وهي دعوة تلقى قبولاً وتهليلا في مختلف أرجاء العالم، في ضوء استمرار التوترات الخطيرة في عالمنا، ولكن من غير تفعيل هذه الدعوة.

وقد لوحظ انشغال المؤتمر بوقف هيمنة الدولار الأميركي على العالم، وكذلك بفكرة إنشاء عملة موحدة لدول البريكس، غير أن تقدّما بطيئا في هذا الخصوص حدث خلال هذا المؤتمر، من قبيل العودة إلى تبادل تجاري بالعملات المحلية، وليس معلوما كيف يمكن قياس القيمة “الحقيقية” للعملات واحتسابها، واستنادا إلى ماذا، فحتى المعدن النفيس (الذهب) الذي تتنافس دولٌ، منها الصين وروسيا ودول أخرى على اقتنائه، فإن أسعاره تُحتسب بعملات رئيسية يتقدّمها الدولار. وإذا ما لحق بالعملة الخضراء تراجع كبير، تتأثر أسعار الذهب سلباً، فضلا عن أن النسبة الكبرى من احتياطات الدول ما زالت بالدولار واليورو، ومنها احتياطات روسية جرى التحفظ عليها في بنوك غربية في إطار العقوبات بعد الحرب على أوكرانيا، فيما تسعى الصين إلى جعل عملتها اليوان في مصافّ عملات رئيسية، يتم التداول بها على نطاق واسع، في وقت تبلغ احتياطات العالم من هذه العملة زهاء 2,7% من مجموع الاحتياطات. وبطبيعة الحال، لم ينته التاريخ، والأمور محكومة بمدى التطوّر الاقتصادي والتوسّع التجاري، كما هي مرهونة بالتحالفات السياسية وصناعة الأسلحة المتطوّرة وسباق التسلح الذي تُرصد له ميزانيات هائلة.

لم تنل مسألةٌ، مثل موجات الهجرة المتلاحقة واللجوء العشوائي وركوب البحر نحو المجهول أو الموت، الاهتمام الذي تستحقّه

هناك أعداد غفيرة من البشر تطلعت إلى قمّة بريكس، التماساً لاستشراف نقاط ضوء تبشّر بعالم أكثر عدلاً وأمانا، ولا تكون فيه الأرجحية لقطب واحد، غير أن المرء يتساءل هنا عن درجة انشغال هذه القمّة بطرح مبادراتٍ والاستعداد لبذل جهود استثنائية لوقف النزاعات الخطيرة ومعالجتها عبر الدبلوماسية، فهل منحت قمة جوهانسبرغ بارقة أمل لوضع حد للحرب الطاحنة في أوكرانيا؟ وهل نالت هذه الحرب ذات التداعيات الكبيرة على الأمن العالمي ما تستحقّه من انشغال بها؟

لا توحي مجريات القمّة بذلك، ولو أنها أبدت مثل هذا الاهتمام الملموس لكانت تركت أصداء إيجابية على أوسع نطاق في العالم. … وبينما حمل المؤتمر اسم قمّة أفريقيا، فإن توتّرا أقلّ حدّة وتعقيدا من حرب أوكرانيا، في بلد هو النيجر، نتيجة الانقلاب العسكري فيه، لم يحظ بما يستحقّه من اهتمام فعلي، ومن إرادة سياسية كافية لوضع حدّ لهذا التوتر، عبر تقديم مبادرة جدّية، غير أن الخلفية الأيديولوجية للمؤتمر طغت على ما عداها من اعتباراتٍ بشأن الوضع المتأزّم، فانحسار النفوذ الفرنسي في هذا البلد أكثر أهمية كما يبدو من أن يشقّ شعب النيجر طريقه نحو بناء نظام سياسي عصري مستقرّ يضمن أكبر مشاركة داخلية مع تنمية واسعة، بعيدا عن سطوة الأخ العسكري الأكبرعلى الدولة والمجتمع. وينطبق هذا الأمر على النزاع السوداني المدمّر الذي لم يحظ بتدخّلات إيجابية لوقف هذا الحريق، ولوضع عقوبات رادعة على من يعتبرون أن من حقّهم جعل شعبهم ومقدّرات وطنهم وقودا لطموحاتهم السياسية الأنانية.

هناك حاجة فعلية لتعدّدية قطبية تتنافس على ما تقدّمه للبشرية من حلول ومعالجات، لا أن تنحو نحو تقاسم النفوذ وإنشاء امبراطوريات تنافس الغرب في التوسّع والهيمنة

وفي السياق نفسه، المتعلق بالتوترات والكوارث في عالمنا، لم تنل مسألةٌ، مثل موجات الهجرة المتلاحقة واللجوء العشوائي وركوب البحر نحو المجهول أو الموت، الاهتمام الذي تستحقّه، وذلك بعد فشل الغرب والأمم المتحدة في التعامل مع هذه المشكلة المتشعّبة، وكان على دول بريكس التي تطرح نفسها بديلا أو منافسا للنظام الدولي القائم، أن تتعامل مع هذه المشكلة التي يذهب ضحيّتها بشر ينتمون خصوصا إلى قارّتي أفريقيا وآسيا، ويمثّل استفحالها شاهدا على التفاوتات الاقتصادية والاختلالات القانونية، علاوة على مشكلة الهجرة برمّتها التي تتغذّى من ثنائية الفقر والاستبداد وغياب القانون. تُضاف إلى ذلك مشكلات صعبة، مثل الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ الذي يمسّ بلدانا وشعوبا في أوسع أرجاء العالم، وخصوصا في البلدان الأقلّ نموا، وعلى الجميع هنا أن يتحمّلوا مسؤولياتهم، لا أن يتم التنصّل من المسؤولية وقذفها إلى جهة واحدة.

وعلى الجملة، يتوجّه خطاب دول بريكس، بصورة شبه حصرية، إلى الدول والأنظمة السياسية بأكثر مما يتوجّه الى الشعوب وإلى العائلة الإنسانية، فثمة مشكلات مزمنة ومستفحلة لا تلقى أكثر من الاهتمام الرمزي المعنوي، كما هو الحال مع قضية شعب فلسطين ومواصلة الاحتلال الاستيطاني والعسكري للأراضي الفلسطينية، فيما يزداد الوضع في سورية تراجيديةً، ويتعرّض الشعب هناك إلى المجاعة والتشريد وانسداد الأفق، في غياب أي حلٍّ جدّي يحفظ حقّ هذا الشعب في الكرامة والأمان. وعلى ضفاف ذلك، تنتشر في عالمنا موجات الكراهية وازدراء الأديان والإسلاموفوبيا، والنزعات القومية المتضخّمة مع الاستهانة بخطر العنصرية، إلى استمرار الإرهاب بأشكال شتى.

هناك حاجة فعلية لتعدّدية قطبية تتنافس على ما تقدّمه للبشرية من حلول ومعالجات، لا أن تنحو نحو تقاسم النفوذ وإنشاء امبراطوريات تنافس الغرب في التوسّع والهيمنة.

العربي الجديد