تلتقي التصريحات والمواقف التركية والعراقية الصادرة حول حصيلة زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى العراق ولقاءاته هناك، عند وجود رغبة مشتركة لمراجعة السياسات والذهاب نحو طرح خريطة طريق جديدة في العلاقة بين البلدين.
فهل تمت التفاهمات على التنفيذ الفوري أم أن الأمور ستنتظر زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق التي يدور الحديث عنها منذ أشهر دون نتيجة حتى الآن؟
وكيف ستكون ارتدادات تصريحات فيدان من أربيل بعد لقائه رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني وهو يقول: “لدى تركيا أيضاً العديد من المسائل التي تحارب من أجلها.. ونحن موجودون هنا لحماية أرض العراق ووحدته”، خصوصاً أنه يتحدث بعد ساعات على دعوته بغداد لوضع “حزب العمال الكردستاني” على لائحة التنظيمات الإرهابية.
سبق زيارة فيدان إلى بغداد وأربيل واجتماعاته هناك الكثير من التحضير ودخول أكثر من لاعب محلي وإقليمي على الخط لتسهيل الخروج بنتائج ترضي الطرفين، فملفات الخلاف والتباعد التي تنتظر الحلول والتفاهمات كثيرة.
ما هو غير واضح بعد شكل المسار وطريقة ترتيب الأولويات في بحث المسائل، حيث يتمسك الجانب العراقي بفصل الملفات ومناقشة كل قضية على حدة، بينما تريد أنقرة دمج الملفات لأنها متداخلة ومتشابكة كما تقول، ووضعها كلها في سلة واحدة والتفاهم حولها في إطار خطة سياسية واقتصادية وأمنية موحدة يتم الالتزام بتنفيذها.
توحي العديد من المؤشرات بأن الأمور تسير باتجاه إيجابي هذه المرة وبعكس الكثير من المرات السابقة التي شهدت توقيع عقود ومذكرات تفاهم عديدة لم يتم تنفيذ الكثير منها حتى الآن، وأن الهدف هو تسجيل اختراق سياسي وإحداث قفزة نوعية في العلاقات.
فخلال وجود فيدان في العاصمة العراقية كان نائب رئيس الوزراء العراقي لشؤون الطاقة وزير النفط حيان عبد الغني يجري “مباحثات جادة” في تركيا تسرع حسم الخلافات في ملف تصدير النفط العراقي إلى الخارج عبر الأراضي التركية، الذي يحمل بغداد خسارة 400 ألف برميل من نفطه يومياً نتيجة قرار وقف التصدير من الجانب التركي. التزامن هذا ليس صدفة طبعاً.
فرص وأسباب الذهاب وراء انفراجة في العلاقات التركية العراقية كثيرة، بينها إيجاد صيغة تفاهمات مائية ترضي البلدين، وحسم موضوع وجود مجموعات حزب العمال في شمال العراق، وقطع الطريق على مشروع الربط الجغرافي بين سوريا والعراق الذي يريده البعض، والتعاون لتنفيذ مشروع طريق التنمية العراقي الاستراتيجي بطابع إقليمي. إلى جانب إيجاد صيغة تسوية تنهي التوتر في مسألة نقل النفط العراقي إلى الخارج عبر الأراضي التركية بعيداً عن المحاكم الدولية والتعويضات.
وصفت زيارة فيدان إلى العراق بأنها تندرج في سياق جهود تعزيز العلاقات على المستوى الثنائي والإقليمي، وإنهاء الخلافات والتوتر في ملفات كثيرة تضر بمصالحهما وتخدم مصالح أطراف إقليمية أخرى يهمها بقاء هذا الشحن والتباعد بين البلدين.
ذهبت القيادات السياسية التركية منذ عامين وراء مسار جديد يحتم مراجعة سياستها العربية والإقليمية وبينها موضوع العلاقة مع العراق لإنهاء حالة الخصومة والتباعد. ولم يصغ رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لدعوات التصعيد ضد أنقرة وضرورة الرد من خلال رفع مستوى التوتر والتهديد بقطع العلاقات ولعب أوراق الاقتصاد وإغلاق الحدود وإيقاف عمل الشركات التركية في العراق.
تتطلع القيادات العراقية في الحكم اليوم إلى الاستثمار في الدعم السياسي الداخلي الذي تحظى به، ووقوف العواصم العربية إلى جانبها بعد التحول الملموس في سياسات بغداد وشكل علاقاتها الجديدة مع العديد من العواصم الإقليمية. ويسعى الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه بعد الفوز مجدداً في الانتخابات لتسريع خطوات الحوار والتقارب مع دول المنطقة وتحويل الانفتاح الإقليمي الحاصل إلى فرص سياسية واقتصادية وأمنية مع الجار العراقي.
فما حمله فيدان رئيس الدبلوماسية التركية اليوم في حقيبته وذهب من أجله إلى العراق واضح تقريباً.
بين أهداف فيدان الأولى العمل على حل الكثير من ملفات الخلاف بين البلدين، والتحرك باتجاه رسم ملامح استراتيجية تقارب وتنسيق سياسي وأمني جديد على طريق شراكة طويلة الأمد.
وإيجاد مفتاح حل وصيغ تسوية لما تشهده العلاقات ومنذ سنوات طويلة من توتر وتصعيد في مسائل الحدود والحرب على الإرهاب والمياه والطاقة. ثم البحث عن سبل زيادة أرقام التبادل التجاري التي وصلت إلى 22 مليار دولار ومحاولة رفعها إلى 30 ملياراً كما أعلن الرئيس أردوغان في شهر مارس/آذار الماضي خلال استقباله رئيس الوزراء العراقي في أنقرة. ومحاولة إبقاء العلاقات التركية مع بغداد وأربيل متوازنة رغم أن الجانب العراقي يطالب أنقرة بتقديم العلاقة مع السلطات الاتحادية على العلاقة مع إقليم كردستان.
بعكس علاقاتهما التجارية التي تتحسن وتزدهر يوما بعد يوم، حاول العراق وتركيا تحسين علاقاتهما السياسية أكثر من مرة دون الوصول إلى نتائج مرضية. تم إنشاء مجلس تعاون استراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، لم يتمكن من العمل بفاعلية.
في عام 2008 وقع البلدان على 48 مذكرة تفاهم لم يتم تفعيل الكثير منها. فملفات الخلاف والتباعد بين أنقرة وبغداد كثيرة ومتعددة. بعضها مزمن ينتظر الحل منذ سنوات طويلة مثل موضوع الاستفادة من مياه نهري دجلة والفرات ووجود مجموعات حزب العمال في شمال العراق الذي فتح الطريق أمام التوغل العسكري هناك. وحوار الشدّ والجذب بين الطرفين في العلاقة المميزة بين أنقرة وأربيل على حساب السلطات الفيدرالية العراقية.
وملف تصدير نفط العراق عبر الأراضي التركية إلى الخارج، من خلال اتفاقيات تمت بين تركيا وإقليم كردستان مما أثار غضب بغداد ودفعها للذهاب إلى التحكيم الدولي وكسب القضية التي كانت سبباً في ردة فعل تركية أوقفت حتى اليوم حركة تصدير نفط كركوك باتجاه ميناء جيهان التركي.
ما يقلق أنقرة اليوم هو ليس التعويضات التي ستدفعها لبغداد، بل مواصلة السلطات العراقية خطوات التحرك القانوني ووجود دعوى ثانية مشابهة تشمل الفترة الواقعة حتى عام 2022.
قد لا يستجيب العراق لمطلب تركيا بإعلان مجموعات “حزب العمال الكردستاني” الناشط في قنديل وسنجار حركة إرهابية. وقد تواصل أنقرة تجميد نقل النفط العراقي عبر أراضيها إلى الخارج والمعمول به منذ 5 أشهر. لكن المتضرر سياسياً وأمنياً واقتصادياً هنا هو كلا الطرفين. هذا هو ربما ما حمل فيدان إلى العراق في محاولة صناعة تفاهمات جديدة وهو الذي بنى الكثير من العلاقات الشخصية مع المسؤولين الأمنيين هناك عندما كان على رأس جهاز الاستخبارات التركي.
قناعة القيادات السياسية التركية اليوم وكذلك مواقف العديد من العواصم الإقليمية الفاعلة أن العراق يسير باتجاه تطوير علاقاته التي بدأت تنعكس إيجاباً على وضعه الداخلي وعلاقاته الخارجية. وأن العراق كان له مؤخراً الدور الكبير في المصالحة والتقريب بين العديد من دول المنطقة، وهو ما يمنحه المزيد من الثقل التجاري والسياسي الإقليمي.
قرار تركيا والعراق الذهاب باتجاه آخر في علاقاتهما يحمل الكثير من الواقعية والبراغماتية والأخذ بما تتطلبه التحولات الحاصلة في سياساتهما ومتطلبات الأجواء الإقليمية الجديدة ولعبة التوازنات والمعادلات القائمة اليوم.
سيناريوهات تشكيل لجنة عمل دائمة رفيعة المستوى بين تركيا والعراق لبحث الملفات الخلافية ومعالجتها هو الطرح الأقرب الذي قد يحدد شكل المسار الجديد في العلاقات التركية العراقية، وهو التصور الأقرب لصناعة خارطة الطريق الجديدة كما يبدو.
العبن الاخبارية