تبدو الأزمة السورية كلعبة (ماتروشكا) التي ما إنْ تزيل علبة حتى تجد علبة أُخرى تشبهها، وهي أزمة طال أمدها على البلاد والعباد من دون تقدُّمٍ ملموسٍ في حلحلتها لتداخلها بأزمات معقّدة.
فعلى الرغم من أنّ العنوان العريض للأزمة السورية اليوم هو (الاقتصاد)، فإنّ العودة إلى المربع الأوّل باتت حقيقةً مطروحةً إنْ لم يتم التعامل معها بحذرٍ وأسلوبٍ مختلفٍ من جميع الأطراف ووفق معطيات الوضع الراهن للبلاد، على أن يكون ذلك متناسباً مع الأجواء الاقتصادية والجيوسياسية داخلياً وإقليمياً وخارجياً، بناءً على الآتي:
أولاً: على المستوى الداخلي: لا شكَّ بأنّ البلاد تعيش اليوم أسوأ وضعٍ اقتصاديٍّ في تاريخ سوريا الحديث، لا سيّما بعد الإجراءات الحكومية الأخيرة برفع الدعم عن المواد الأساسية وأهمها المحروقات التي باتت نفيسةً بعد أن كانت عزيزةً قبل الإجراءات الحكومية الأخيرة، فأصبحت الفجوة كبيرة جداً بين الدخل -المتهالك أصلاً- ومتطلبات الحياة المتزايدة، وبات المواطن السوري أمام حقيقة ثابتة في المسير نحو الموت جوعاً، الأمر الذي يجعل الحراك الأخير نواةً لانفجارٍ كبير قد يحصل في أي لحظة، لكن هذا لا يعني أنّ التبعات ستكون على الحكومة وحدها؛ فالتصعيد من جميع الأطراف قد يجرف البلاد إلى منزلق العنف مرّةً أُخرى، مما يهدد بحمّامٍ جديدٍ من الدماء، وتجشّم مخاطر قد تودي بالفُتات المتبقي من البلاد حجراً وبشراً.
ثانياً: على المستوى الإقليمي: لا يشكّ أي عاقلٍ بأنّ انفجار الأوضاع في سوريا من شأنه أنْ يُجهض كل المحاولات والمسارات السياسية والأمنية المُتّفق عليها إقليمياً. قد تكون هذه التفاهمات هشّةً لا ترقى إلى الحلول الجذريّة، إلا أنّها – على الرغم من هشاشتها – لم تولد بين لحظة وضحاها، ولم يكن الطريق إليها مُعبّداً بالورود؛ فقد استغرقت أكثر من عقدٍ لوضع لَبِناتها على طريق حلحلة القضية السورية؛ فإذا ما عادت سوريا إلى المربع الأول فإنّ كل هذه الاتفاقات والمسارات والتفاهمات ستذهب أدراج الرياح؛ فعلى القوى الإقليمية عموماً والعربية على وجه الخصوص المسارعة في احتواء الأوضاع ما أمكن قبل فوات الأوان.
ثالثاً: على المستوى الدولي: لا يختلف الشأن على المستوى الدولي عنه على الإقليمي، وإنما على العكس تماماً؛ فهما مرتبطان ارتباطاً عضويّاً لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ولا سيما على المستويين الأمني والسياسي؛ فالصراع الدولي على الأرض السورية متأزمٌ أصلاً، والحذر الشديد هو سيّد الموقف، وأي انفجارٍ في الأوضاع قد يقلبُ الأوراق بما لا يمكن توقعه. وليس من المبالغة بمكانٍ إنْ قلنا إنّ الصدام المباشر بين القوى الدولية والإقليمية على الأرض السورية أيضاً سيكونُ احتمالاً وارداً وحاضراً بقوة، بالإضافة إلى أنّ مثل هذه الأجواء تكون بيئةً خصبةً ومناخاً مثالياً لتنامي التطرف والإرهاب، مما يستدعي جهداً دولياً حقيقياً للحيلولة دون تفاقم الوضع ووصوله إلى مربع الحرب من جديد.
كل ذلك يعني أنّ سيناريو المربّع الأول قاب قوسين أو أدنى من سوريا، وهو ما لا يريده أحدٌ، لأنّ تداعيات ذلك السيناريو عنّا ليست ببعيدة؛ فما زال الجميع يجاهدُ للخلاص من تبعاتِ العنف على الأرض السورية حتى اليوم، مما يحتِّمُ على الجميع العمل بحكمةٍ وحذرٍ، والتعامل بأساليب مختلفة لتجاوز أخطاء الماضي وطرد شبح المربع الأول المتربّص بالبلاد والعباد بطشاً وعنفاً ودماراً.