المشهد في إيران ليس واحداً، ولا معزولاً عن المشهد الإقليمي والدولي. والنظرة إليه ليست واحدة. ليس فقط في إطار التباين بين المشروع الجيوسياسي والإمكانات الاستراتيجية لتحقيقه، بل أيضاً ضمن تعقيدات الفارق بين الموقع الإقليمي المتوسع والوضع الاقتصادي والاجتماعي المتراجع.
حتى اختصار المشهد بصورتين مختلفتين، فإنه يبقى ناقصاً: صورة ارتياح المسؤولين لما حققته الجمهورية الإيرانية خلال عام على صعيد العلاقات مع الدول العربية، وفي طليعتها السعودية، بعد الشراكات الاستراتيجية مع الصين وروسيا، وصورة ثورة “امرأة، حرية، حياة”، ثم الهدوء في الذكرى السنوية الأولى لوفاة الشابة الكردية مهسا أميني على يد “شرطة الأخلاق”.
الصورة الأولى تؤكد قول غريغوري كوز أستاذ العلاقات الدولية في جامعة تكساس إن “إيران هي الرابح الأكبر في الشرق الأوسط”، إذ هي تمسك باللعبة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، فضلاً عن أنها فرضت أخيراً على إدارة الرئيس جو بايدن تحرير ستة مليارات دولار لطهران كانت محتجزة في كوريا الجنوبية وإطلاق خمسة سجناء إيرانيين في أميركا مقابل إطلاق خمسة سجناء أميركيين في إيران.
ولم يكن سهلاً قبل أشهر سماع كلام مثل الذي قاله سفير طهران الجديد في الرياض على رضا عنايتي “نحن نرى أن السعودية شريك استراتيجي يحظى بأهمية كبيرة”. والتغيير واضح في المقاربة، لكن الأسئلة كبيرة حول التغيير الاستراتيجي، وإن كان تغيير المقاربة نوعاً من التكتيك لخدمة الهدف الاستراتيجي.
الصورة الثانية لا تخفي أن هدوء ثورة النساء حدث بكثير من القمع، حتى أسرة أميني، فإن السلطات حذرتها ومنعتها من إقامة الذكرى السنوية بعد أن اعتقلت والدها وخالتها. وأدوات القمع هائلة: 190 ألفاً في الحرس الثوري، مئات الآلاف في “الباسيج” التابع له، عشرات الألوف من رجال الاستخبارات، و350 ألف عسكري في الجيش، لكن الثورة قامت واستمرت. صحيح ما قيل من أن الثورة “لم تصل إلى نقطة تحول تدفع المؤيدين للثورة من بيوتهم للنزول إلى الشارع”، لكن الصحيح أيضاً أن ما فعلته الثورة هو “الزرع” الذي يحتاج إلى وقت للوصول إلى موسم “الحصاد”.
الثورة جعلت النظام خائفاً ومستنفراً دائماً لقمع أية حركة. فليس قليلاً عدد الفنانين والكتاب والمثقفين الذين حكم عليهم بالسجن أو الموت، وآخرهم كان المخرج سعيد روستابي مخرج فيلم “إخوة ليلى” لأنه عرضه في مهرجان كان. وليس أمراً عادياً أن ترد “جمعية أساتذة وباحثين في حوزة قم” على فصل 110 أساتذة من الجامعات ببيان جاء فيه “طرد الأساتذة يقضي على قليل من الاستقلالية للجامعة، ويفقد الجامعات، فعاليتها المطلوبة، ومع انتقاء مجموعة لا تتمتع بالأهلية، فإن السؤال هو: (إلى أين يتجه مصير العلم والأبحاث في ظل هذه الحكومة؟)”.
أكثر من ذلك، فإن الرئيس الأسبق محمد خاتمي يحذر من “انهيار النظام”، ويقول “ما يجري حالياً بعيد من الجمهورية. ليس لدينا حكم جيد، والناس يبتعدون عن الحكم، والدستور يعاني عيوباً كثيرة”، ثم يسأل “أين الطبقة الوسطى التي هي محرك لتقدم المجتمع؟”. والرئيس السابق حسن روحاني رأى أن “قانون الانتخاب الجديد أغلق الباب أمام مشاركة الناس، وأعطى عدداً قليلاً من الأشخاص التقرير عن 85 مليون مواطن”.
لكن المرشد الأعلى علي خامنئي يرى انتصارات لا سابق لها. ويقول لقادة الحرس الثوري “تعبير الخيار العسكري المطروح على الطاولة أصبح فاقد المعنى بعد ضمان قوة الردع وتعاظم قدرات الحرس الثوري”. والمفارقة أبعد من ذلك. الإمبراطوريات الفارسية القديمة كانت من صانعي التاريخ. الجمهورية الإسلامية قامت على أساس أنها ابنة تاريخ يحتاج إلى تصحيح وصاحبة وعد بماضٍ أفضل.
وكما في روسيا كذلك في إيران: طموح جامح لدور قطب مناوئ للغرب بإمكانات محدودة.