دلالات الموقف الصيني من التصعيد في الشرق الأوسط

دلالات الموقف الصيني من التصعيد في الشرق الأوسط

استدعى التصعيد المتواصل في الشرق الأوسط وتحديداً بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ السابع من شهر أكتوبر الحالي (2023)، والذي تميز بأنه غير مسبوق من أكثر من ناحية، خاصة أنه أخذ في التوسع والتعقد في نفس الوقت، مواقف دولية عديدة، كان من بينها الموقف الصيني. هذا الموقف الذي تميز بالوضوح لم يرق لأطراف أخرى. فما هي عناصر هذا الموقف؟، وما هي الجذور التي بنى عليها؟، وكيف يمكن أن يكون في المستقبل؟

محددات رئيسية
تبلور الموقف الصيني مما جرى يوم السابع من أكتوبر في نقاط واضحة(1). الأولى، تتمثل في القلق الكبير حيال التصعيد وأعمال العنف. ويلاحظ هنا أن الخارجية الصينية قد استخدمت مفردتي فلسطين وإسرائيل كطرفين في أعمال العنف. ولم تأت على ذكر فصائل بعينها. ومن المعلوم أن الصين قد اعترفت منذ العام 1988 بالدولة الفلسطينية التي أعلنت قيامها منظمة التحرير الفلسطينية. كما أنها ترى أن فلسطين قد تعرضت لظلم تاريحي يحتاج من المجتمع الدولي أن يقف إلى جانب الحق والعدالة.

والثانية، تتعلق بدعوة الطرفين إلى ضبط النفس والهدوء ووقف الأعمال العدائية بشكل فوري حتى لا يزداد الوضع تدهوراً، وحتى لا يسقط المزيد من المدنيين. ولم تكتف الصين بذلك وإنما انتقلت في النقطة الثالثة إلى بيان أن جمود عملية السلام يحب أن لا يستمر نظراً لأن استمراره يجدد دورات الصراع. بل إنها ذهبت في النقطة الرابعة إلى تشخيص المخرج الأساسي من هذه الحلقة المفرغة ورأته متمثلاً في إقامة دولة فلسطينية مستقلة في إطار حل الدولتين. وقد حددت النقطة الخامسة الوسيلة لتحقيق ذلك ممثلة في ضرورة استئناف محادثات السلام بأسرع وقت ممكن بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وسادس النقاط ينصرف إلى مسئوليات المجتمع الدولي بحيث يتحرك سريعاً، ويزيد من اهتماماته بالقضية الفلسطينية، ويسهل عملية المفاوضات، ويوجد السبل اللازمة لكي يتحقق السلام الدائم. وطالما أن الصين جزء من هذا المجتمع الدولي فإنها في النقطة السابعة أكدت على مواصلتها العمل مع المجتمع الدولي من أجل تحقيق ذلك.

وفيما بعد، أعلنت الصين عن أسفها العميق لسقوط مدنيين من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، كما أنها أعلنت عن معارضتها للأعمال التي تضر بالمدنيين. وهنا أيضاً فإنها استمرت في استخدام مفردتي فلسطين وإسرائيل. وحديثها لم يفرق بين مدنيين من هذا الطرف أو ذاك. كما أنها أعلنت عن موقفها الرافض لكل ما من شأنه “توسيع نطاق الصراع وتقويض الاستقرار الإقليمي”، مع الدعوة لوقف إطلاق النار سريعاً(2).

بطبيعة الحال، فإن عناصر الموقف الصيني تلك تثير تساؤلات كثيرة حول وضع القضية الفلسطينية على أجندة القوى الكبرى، وما تقوم به بالفعل من أجل تسوية الصراع، وكذلك تنسحب التساؤلات على الصين باعتبارها واحدة من القوى الدولية المهمة.

الموقف الصيني هذا والذي لم يبد انحيازاً إلى هذا الطرف أو ذاك والهادف إلى حقن الدماء والذي يذكر بالأسس التي يمكن أن تجنب المزيد من التصعيد، لم يرق للجانب الإسرائيلي، الذي كان يأمل في إدانة واضحة للجانب الفلسطيني وتسمية الفصيل الذي قام بعملية “طوفان الأقصى”. ليس هذا فحسب بل إن يوفال واكس، المسئول في السفارة الإسرائيلية في بكين، قد اعتبر أن الوقت غير مناسب للحديث عن حل الدولتين(3).

ليست إسرائيل وحدها من لم يرق لها هذا الموقف الصيني، وإنما كانت هناك تصريحات لزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر الذي يرأس وفداً في زيارة إلى بكين، والذي أعلن عن خيبة أمله من بيان الخارجية الصينية، معتبراً أنه لم يتعاطف مع إسرائيل أو يدعمها فيما أسماه أوقاتاً عصيبة تمر بها(4).

الموقف الصيني مختلف تماماً عن الموقف الأمريكي ومجمل المواقف الغربية التي لم تكتف بإدانة ما قام به الفلسطينيون، بل إنهم وقفوا بكل قوة مع إسرائيل. كما أنه يختلف عن موقف كل من اليابان وكوريا الجنوبية واللتين أدانتا بقوة ما قام به المسلحون الفلسطينيون(5).

على ماذا بُنى موقف بكين؟
الموقف الصيني مما جرى يوم السابع من أكتوبر له جذور مرتبطة به. فكما سبق القول، فإن الصين قد اعترفت بالدولة الفلسطينية، كما أنها أيدت في العام 2012 انضمامها كعضو مراقب في الأمم المتحدة، بل إنها كانت من بين الدول التي رعت مشروع القرار الذي قدم إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بهذا الخصوص. وبالتبعية فإنها تدعم انضمام فلسطين إلى عضوية مختلف المنظمات الدولية(6).

لا يقف الأمر عند ذلك، بل إن الصين ترى أن القضية الفلسطينية قضية محورية ضمن قضايا الشرق الأوسط، وهي الأكثر أهمية بين قضايا المنطقة، ومن ثم فإن هناك حاجة ماسة لكي تنال الاهتمام الدولي المناسب حتى يتم التوصل إلى حل عادل لها. إذن فالصين ليست مع تهميش القضية الفلسطينية “لا يجوز تهميش القضية الفلسطينية، ناهيك عن وضعها في الزاوية المنسية” على حد وصف الرئيس الصيني شي جينبينج والذي اعتبر أن هناك ضمانتين لتهدئة الأوضاع ووقف الصراع يتمثلا في “الدفع باستئناف مفاوضات السلام وتنفيذ اتفاقيات السلام من جهة، والالتزام بالعدل والعدالة”(7).

الصين لم تغفل كذلك أهمية مرافقة الشق الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الشق السياسي، حيث ترى ضرورة إعادة الإعمار. كل هذا ينطلق من إقرار الصين بأن إسرائيل قوة احتلال عليها مسئوليات طبقاً لاتفاقية جنيف الرابعة، ومن ثم فإن ما تسعى إليه من تغيير للأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 مخالف لقواعد القانون الدولي الإنساني، ويضرب بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة عرض الحائط. وعلى رأس هذه الإجراءات الاستيطان الذي يتواصل رغم كل القرارات الدولية.

الصين كانت قد قدمت مقترحاً من أربع نقاط لتسوية القضية الفلسطينية في العام 2013. جوهر هذه المقترحات وأولها يتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، باعتبار ذلك حقاً ثابتاً للشعب الفلسطيني، وأساس تسوية القضية الفلسطينية. وفي المقابل، يقر المقترح بحق إسرائيل في الوجود مع احترام شواغلها الأمنية التي يراها مشروعة أيضاً. ومن ثم، يأت التعايش السلمي بين فلسطين وإسرائيل.

ثاني نقاط المقترح الصيني يتعلق بطريق السلام بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، حيث أن الصين ترى أن المفاوضات هي الطريق الوحيد لهذا السلام المبتغى. والمسئولية هنا تقع على عاتق الطرفين انطلاقاً من الرغبة المتبادلة في التفاهم. وفي هذا السياق، اعتبرت الصين أن هناك أولوية لوقف العنف ورفع الحصار، ومعالجة قضية السجناء الفلسطينيين، إضافة إلى وقف الاستيطان بما يمهد لتوفير الظروف اللازمة كي تستأنف المفاوضات. وأضافت الصين إلى كل ذلك ضرورة المصالحة الفلسطينية باعتبارها من عوامل المساعدة في اسئناف محادثات السلام والدفع بها قدماً.

البند الثالث في مقترح النقاط الأربع يذهب إلى أهمية قرارات الأمم المتحدة المرتبطة بالصراع، ومبادرة السلام العربية، ومبدأ الأرض مقابل السلام. ويختتم المقترح بالبند الرابع الذي يركز على الدور الدولي المنوط به توفير الضمانات الضرورية حتى يكون هناك تقدم في المفاوضات، خاصة في ظل الوضع الملح على الأرض، على أن تكون هناك موضوعية وعدالة وبذل ما يلزم من جهود. وإلى جانب كل ذلك أهمية زيادة المساعدات للفلسطينيين في إطار عملية التنمية الاقتصادية(8).

لا يمكن إغفال أن الصين كانت قد عينت منذ العام 2002 مبعوثاً خاصاً للسلام في الشرق الأوسط، على شاكلة ما فعلت دول أخرى. وفي هذا دلالة على مدى اهتمامها بالملف. كما أن مبادرة الحزام والطريق الصينية تتأثر في بعض جوانبها على الأقل بطبيعة الأوضاع في المنطقة، ناهيك عما يمكن أن تسهم به في حال وجود مشاريع تعاونية.

فرص الدفع بمبادرة صينية
هل الصين في وارد الدفع بمبادرة للتعامل أولاً مع الوضع الراهن، وثانياً للتعامل مع مجمل الأوضاع وصولاً إلى تسوية؟ ما عبرت عنه الصين في موقفها المبدئي مما حدث يوم السابع من أكتوبر يظهر أن موقفها ثابت فيما يتعلق بضرورة وقف دائرة العنف. كما أنها كانت واضحة في بيان أسس رؤيتها للتسوية. لكن في الوقت نفسه فإن رد الفعل الإسرائيلي كان واضحاً في الامتعاض من الموقف الصيني، ورؤيته عدم مناسبة الحديث عن حل الدولتين في هذا التوقيت؛ فإسرائيل في هذه المرحلة مأخوذة من درجة الجرأة في مبادئة الفصائل الفلسطينية، ومصدومة من كم الضحايا، ومدفوعة بغريزة الانتقام. لكن إلى متى؟ وإلى أي مدى يمكن أن تصل؟

يمكن للصين أن تدعو إلى عقد مؤتمر دولي للسلام. وقد سبق لها أن تقدمت بمثل هذا المقترح على أن يكون ذلك بمشاركة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. وفي السابع والعشرين من سبتمبر 2023، أي قبل عشرة أيام من اندلاع الأحداث الأخيرة، أعربت الصين في مجلس الأمن عن تأييدها لدعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعقد مؤتمر دولي للسلام، وأن يقوم مجلس الأمن بإرسال بعثة إلى فلسطين وإسرائيل، جنباً إلى جنب مع التأكيد على مواقفها المبدئية المشار إليها سابقاً. وكان من اللافت إشارة الصين إلى مسألتين في غاية الأهمية: أولاهما، تتعلق بأن العام الحالي يمثل ذكرى مرور ثلاثين عاماً على اتفاق أوسلو، ومع ذلك فإن “الأرض الفلسطينية المحتلة ما تزال غارقة في الصراع والاضطرابات”. وثانيتهما، تتمثل في لا معقولية القيود المفروضة من قبل السلطة القائمة بالاحتلال على حركة الأشخاص والبضائع واستخدام الأراضي(9).

ويبقى السؤال المطروح: هل ستقبل بذلك كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية؟ ففضلاً عن السياسة الإسرائيلية الواضحة في ملفات الاستيطان والقدس والحدود والمياه واللاجئين وهي الملفات التي أُجِّلت طبقاً لاتفاق أوسلو، والتي لم يحدث فيها أي تطور إيجابي لا على صعيد المفاوضات ولا على صعيد التطورات على الأرض، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وافقت على القرار 2334 الصادر في ديسمبر من العام 2016. ومن بين ما تضمنه القرار- والذي أكد على معظم القرارات السابقة بخصوص الصراع- اعتبار”أن الوضع القائم غير قابل للاستدامة” وطالب باتخاذ ما أسماه بـ”خطوات كبيرة” حتى يمكن تحقيق أمرين مهمين: أولهما “تثبيت استقرار الوضع وعكس مسار الاتجاهات السلبية المشهودة ميدانياً والتي بسببها يتآكل حل الدولتين ويترسخ واقع الدولة الواحدة على نحو مضطرد”. وثانيهما، “تهيئة الظروف لنجاح مفاوضات الوضع النهائي وللدفع قدماً بحل الدولتين من خلال تلك المفاوضات وعلى الأرض”(10).

كما أن واشنطن وقبل أيام من أحداث السابع من أكتوبر، ومن على منبر مجلس الأمن، قد اعتبرت أن العنف يعيق السلام، ويسبب “الكثير من المعاناة التي لا داعي لها”. وقد دعت إلى التوقف عن الأفعال والخطابات التي تؤجج التوترات، معتبرة أن الاستيطان مقوض لحل الدولتين، ناهيك عن تقديم مساعدات أمريكية إضافية للأونروا(11).

إذن، مجلس الأمن، مثله مثل الصين، يدرك أن حل الدولتين مهم حتى في أوقات التصعيد والتوتر. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أهمية هذا الحل. لكن يبقى التساؤل: هل الظرف الدولي الراهن يسمح بتمرير مبادرة صينية؟ أغلب الظن أنه حتى لو تقدمت الصين بمبادرة مكتملة الأركان، فإن فرص نجاح مثل هذه المبادرة تبقى محدودة، خاصة في ظل حالة الاستقطاب في العلاقات الأمريكية- الصينية من ناحية أولى، وفي ظل حرص واشنطن على أن تكون اللاعب الأكثر تأثيراً في ملفات الشرق الأوسط، وعلى رأسها ملف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ثم لا ينبغي إغفال ترتيب الأولويات لدى صانع السياسة الخارجية الأمريكية في هذا الظرف، سواء فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا من ناحية أولى، أو ما يتعلق بقرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد عام ونيف، ومدى تأثير اللوبي اليهودي في تلك الانتخابات من ناحية ثانية.

ستظل الصين تطالب بضبط النفس، والتهدئة مع التأكيد على أهمية التسوية الدائمة. وفي الوقت نفسه، فإن علاقاتها بإسرائيل لن تتأثر كثيراً، خاصة أن هناك طيفاً واسعاً من أنماط التعاون بين البلدين. كما أنها لن تتخلى عن دعم الحقوق الفلسطينية في المحافل الدولية، والمطالبة بمواقف متوازنة. وما سوف تتمخض عنه اجتماعات مجلس الأمن بخصوص الأحداث الراهنة سوف يكون كاشفاً لما ستكون عليه المواقف الدولية في المستقبل القريب بما فيها الموقف الصيني.