مع تصاعد حدة المواجهات المسلحة بين إسرائيل وحركة حماس، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في اتخاذ خطوات إجرائية لتعزيز الدعم العسكري للأولى، بالتوازي مع إلقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن كلمة، في 10 أكتوبر الجاري (2023)، أكد فيها استمرار هذا الدعم وهاجم من خلالها حركة حماس ووجه عبرها تحذيرات إلى “أطراف ثالثة” من التدخل في الحرب لاستحصال مكاسب منها. في هذه الأثناء، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أن حاملة الطائرات الأمريكية “يو إس إس جيرالد آر فورد” وصلت إلى شرق البحر المتوسط. كما أعلنت أن معدات عسكرية وصلت إلى إسرائيل بالفعل.
قد توحي هذه المظاهرة العسكرية الأمريكية الداعمة لإسرائيل أن الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها إلى الانخراط في الحرب فعلاً إلى جانب حليفتها الاستراتيجية. لكن التمعن في الملابسات التي صاحبت هذه التحركات، فضلاً عن الظروف الداخلية الأمريكية والإقليمية والدولية المعقدة، يوحي بأن العكس هو الصحيح.
إذ أن واشنطن تحاول قدر ما تستطيع عبر التلويح باستخدام القوة تجنب المغامرة بالانخراط في مواجهة عسكرية جديدة، خاصة إذا كانت هذه المواجهة في منطقة الشرق الأوسط. وربما من هنا، يمكن تفسير أسباب حرص الرئيس جو بايدن، إلى جانب بعض المؤسسات الأمريكية، على غرار وزارتى الدفاع والخارجية، على نفى وجود مؤشرات توحي بأن إيران طرف رئيسي في المواجهة الحالية، بعد أن أشار تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”، في 9 أكتوبر الجاري، إلى أن الضوء الأخضر للعملية العسكرية منح خلال اجتماع بين قادة في الحرس الثوري وحركة حماس في بيروت، في 2 من الشهر نفسه، وأن التخطيط للعملية بدأ منذ نحو شهرين. وهنا، فإن ثمة اعتبارات عديدة يمكن من خلالها تفسير هذه التحركات الأمريكية في مجملها.
صفقة السجناء
كان أول مبرر استند إليه الاتجاه الذي يرجح تورط إيران في عملية “طوفان الأقصى” داخل الولايات المتحدة الأمريكية، هو حصولها على 6 مليار دولار من أموالها المجمدة في كوريا الجنوبية، بمقتضى صفقة تبادل السجناء التي تم إبرامها مع الولايات المتحدة الأمريكية وتنفيذها في 18 سبتمبر الفائت، حيث تضمنت، إلى جانب ذلك، الإفراج المتبادل عن بعض السجناء الأمريكيين والإيرانيين. إذ اعتبر هذا الاتجاه أن إيران استغلت هذه الأموال في مواصلة تقديم الدعم لحلفائها الإقليميين في منطقة الشرق الأوسط.
وهنا، فإن الإدارة الأمريكية سارعت بدورها إلى الدفاع عن نفسها، ليس فقط من خلال نفى وجود دلائل تؤكد ضلوع إيران في العملية العسكرية التي شنتها حركة حماس، في 7 أكتوبر لجاري، وإنما أيضاً من خلال إعادة التأكيد على أن هذه الأموال سوف تنفق وفقاً لآلية محددة تشرف عليها وزارة الخزانة الأمريكية بحيث يتم توجيهها لأغراض معينة مثل شراء الدواء والغذاء.
تهديدات محتملة
فضلاً عن ذلك، فإن توجيه اتهام مباشر إلى إيران بأنها وراء هذه العملية العسكرية قد يرتب استحقاقات أخرى لا تبدو الإدارة الأمريكية مستعدة لها في الوقت الحالي. إذ أن ذلك قد يستنفر المليشيات الموالية لإيران في المنطقة لإعادة استهداف المصالح – أو بمعنى أدق القواعد العسكرية – الأمريكية، لاسيما في كل من سوريا والعراق. بل كان لافتاً على سبيل المثال، أن مليشيا الحوثيين في اليمن كانت حريصة على الانخراط في رسائل التحذير المتبادلة بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة أخرى.
إذ أكد زعيم المليشيا عبد الملك الحوثي، في كلمة ألقاها بمناسبة الحرب في غزة، في 10 أكتوبر الجاري، على “الجهوزية للمشاركة بالقصف الصاروخي وبالمسيرات وأي خيارات عسكرية أخرى إذا تدخلت أمريكا بشكل مباشر في العدوان على فلسطين”.
والملاحظ في هذا السياق، أن عملية استهداف القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا تراجعت خلال الشهور الأخيرة، وهو ما لا يمكن فصله عن الاتصالات والتفاهمات التي كانت -وربما ما زالت- تجري بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وهو مسار يبدو أنه كان يتوافق مع حسابات الإدارة الأمريكية.
هذه الحسابات كانت ترتبط – قبل حرب غزة – بمحاولة الوصول إلى تهدئة لمعظم الملفات الإقليمية الرئيسية في المنطقة، إن لم يكن مجملها، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء عوامل رئيسية ثلاثة: أولها، اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في نوفمبر 2024، حيث يتبقى عليها نحو عام تقريباً، وهو ما يبدو أنه سوف يحظى بالأولوية لدى الإدارة الأمريكية الحالية، حيث يسعى الرئيس بايدن إلى تجديد ولايته الرئاسية لفترة جديدة. وربما يجادل البعض في هذا السياق بأن حرص الرئيس بايدن على إعلان “الدعم الكامل” لإسرائيل فرصة لتعزيز حظوظه في هذا الصدد، لاسيما لجهة استقطاب دعم اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
وثانيها، الانشغال بإدارة الصراع غير المباشر مع روسيا، من خلال الحرب في أوكرانيا، حيث تسعى واشنطن عبر إدارة الصراع إلى محاولة توجيه النتائج التي سوف تنتهي إليها هذه الحرب في مسار يحفظ للولايات المتحدة الأمريكية مكانتها باعتبارها القوى الدولية الرئيسية في النظام الدولي، بعد أن كانت هذه المكانة تتعرض لـ”ضغوط” بفعل التطورات التي طرأت على الساحة الدولية في العِقد الأخير على الأقل.
وثالثها، الدفع في اتجاه إبرام مزيد من اتفاقيات تأسيس علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وبعض الدول العربية، حيث ترى الإدارة الأمريكية أن نجاحها في تحقيق هذا الهدف كفيل بتعزيز فرص الرئيس بايدن في تجديد ولايته الرئاسية مرة أخرى في عام 2024.
من هنا، يمكن تفسير أسباب التحفز الأمريكي إزاء تطورات المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحماس، حيث أن هذه الحرب – التي مثّلت مفاجأة كاملة لواشنطن وتل أبيب – كفيلة بإرباك هذه الحسابات، خاصة في حالة ما إذا اتسع نطاقها لتشمل إلى جانب إسرائيل وحماس بعض المليشيات الموالية لإيران في المنطقة على غرار حزب الله اللبناني.
إذ أن ذلك كفيل ليس فقط بدفع واشنطن إلى الانخراط كطرف مباشر في الحرب، وإنما أيضاً بوقف الاتصالات والتفاهمات التي تجري مع إيران، خاصة حول الاتفاق النووي المتعثر منذ انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منه في 18 مايو 2018. صحيح أن هذه التفاهمات لم تصل إلى صفقة جديدة في هذا الصدد، لكن الصحيح أيضاً أنه كان هناك نوع من التوافق العام بين الطرفين على عدم الوصول إلى ما يمكن تسميته بـ”المرحلة الحرجة”، إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو مسار أصبح غير مضمون في ظل المعطيات الجديدة التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى”، والتي جاءت أيضاً في وقت كانت الولايات المتحدة الأمريكية منشغلة بدورها في الأزمة التي فرضها عزل رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي، في 4 أكتوبر الجاري.
فضلاً عن ذلك، فإن الحرب الحالية قد توفر فرصة لقوى دولية مناوئة من أجل محاولة الحصول على مكاسب منها، وكان لافتاً في هذا السياق أنه في اليوم الذي تحدث فيه الرئيس بايدن عن “الدعم الكامل” لإسرائيل، بدأت روسيا بدورها في توجيه رسائل تفيد بأنها ليست بعيدة عن الحسابات الإقليمية والدولية لما يجري في غزة حالياً، حيث لا يمكن استبعاد أن تحاول استثمار ذلك في إدارة صراعها مع الدول الغربية في أوكرانيا، وهو ما يوحي في النهاية بأن الحرب الحالية دشنت مرحلة جديدة سوف يكون لها تأثير مباشر على مسارات التفاعلات التي تجري على الساحتين الإقليمية والدولية على المديين المتوسط والبعيد.