في ظل هيمنة تصاعد العنف في الشرق الأوسط على الأجندة الإخبارية الدولية، فإن موسكو تعتمد على العناوين المأساوية القادمة من إسرائيل في تحويل الانتباه عن حرب روسيا في أوكرانيا. لكن الأمر يتعلق بما هو أكثر من مجرد تغيير الاهتمام الإعلامي. فالسلطات الروسية تأمل أيضا بأن يعاد توجيه بعض إمدادات السلاح الغربية إلى إسرائيل، نتيجة للوضع في الشرق الأوسط.
موسكو – بلغت الحرب الروسية ضد أوكرانيا يومها الـ602، والقتال بين إسرائيل وحماس في غزة يومه العاشر، فيما تظهر آثار القتال الثاني على الأول. ويقول بافيل بايف، أستاذ باحث في المعهد الدولي لأبحاث السلام في أوسلو، وزميل أول غير مقيم في مؤسسة بروكينغز بواشنطن، في تحليل نشرته مؤسسة جايمس تاون إن من المؤكد أن التفاعل بين هذين الانهيارين الرئيسيين في النظام العالمي سيكون قويا.
ويسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالفعل إلى استغلال فرص الاضطرابات الجديدة. ويتمثل مكسبه المباشر في تحويل الاهتمام الدولي عن عدوان روسيا المستمر في أوكرانيا. وحذرت دراسة صادرة عن معهد الحرب في واشنطن، من أن روسيا “ستستغل الحرب” بين إسرائيل وحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، بغية “إضعاف الروح المعنوية” لدى الأوكرانيين، بحجة أن الغرب “سيوجه أنظاره إلى الأزمة الجديدة في الشرق الأوسط، وبالتالي سيضعف الدعم الدولي المقدم لكييف”.
ويأمل الكرملين في رؤية التخفيض المستمر المحتمل للمساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا بسبب الحاجة الملحة إلى تسليم الأسلحة، وخاصة أنظمة الدفاع الصاروخي، إلى إسرائيل. لكن هذه الآمال تضاءلت مع الاجتماع الأخير لمجموعة عمل رامشتاين المؤلفة من العسكريين الغربيين الداعمين لأوكرانيا بقيادة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن.
وأعلن أوستن في الثاني عشر من أكتوبر عن حزمة مساعدات جديدة وأكد أن الالتزامات تجاه أوكرانيا لن تتأثر بالمساعدات المقدمة لإسرائيل. وحاول المعلقون الروس تصوير المأزق الذي وصل إليه مجلس النواب الأميركي على أنه نتيجة للخلافات العميقة داخل الطبقة السياسية في واشنطن حول حجم التمويل لأوكرانيا.
ويزيد القتال في غزة نتيجة لهجوم حماس من إلحاح واشنطن للتغلب على هذا المأزق. ويمكن أن تصبح المبادرة التي تجمع بين تمويل المساعدات لإسرائيل وأوكرانيا وسيلة لتحقيق هذا الهدف. وتفترض موسكو أن الدعم الأميركي القوي لإسرائيل سيطرح مشاكل جديدة في العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين الأكثر تعاطفا مع القضية الفلسطينية.
ويرى الكرملين أن هذا الخلاف المفترض سيقوض التضامن الغربي مع أوكرانيا. لكن الدول الأوروبية التزمت في اجتماع رامشتاين بتسليم شحنات جديدة من الأسلحة إلى أوكرانيا، مع إعطاء الأولوية للدفاع الجوي بينما اعترفت بأنها لا تستطيع تعويض الدعم الأميركي في حال تراجعه. وربما كان القرار الذي تبنته الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا والذي يصف نظام بوتين بالدكتاتورية ويسعى إلى إنهاء كل الارتباطات مع رئاسته غير الشرعية النقطة الأكثر تأثيرا على المستوى السياسي.
وكانت الإدانة الصادرة عن أوروبا، وخاصة فرنسا والاتحاد الأوروبي نفسه، لحماس، أشدّ مما توقعت موسكو. وكان رد فعل روسيا على التطورات في غزة متناقضا، لكنه متناغم مع مواقف الآخرين في الشرق الأوسط الكبير. والتقى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط بعد يومين على هجوم حماس، في التاسع من أكتوبر، واقترح وقفا فوريا لإطلاق النار.
وفي اليوم التالي، استقبل بوتين في الكرملين رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ووصف تصعيد الصراع بأنه فشل للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. ولم يعرب بوتين عن أي تضامن مع إسرائيل في كلمته أمام قمة رابطة الدول المستقلة في بيشكيك. وتحدث بدلا من ذلك عن “خسائر غير مقبولة” في صفوف الفلسطينيين وحذر من عواقب العدوان الإسرائيلي الوخيمة. وأعربت حماس عن امتنانها للرئيس الروسي لاتخاذه هذا الموقف.
ويبدو أن روسيا تقف على نفس الصفحة مع المملكة العربية السعودية وتركيا، حيث تتوقع أن يكون للقتال في غزة صدى يسبب اضطرابات عنيفة في جميع أنحاء الشرق الأوسط الأوسع. ويتوقع خبراء السياسة الخارجية في موسكو تصعيدا أفقيا للأعمال العدائية، وأن يتماشى هذا التطور مع المصالح الروسية. وليس الارتفاع الحتمي في أسعار النفط الوحيد الذي يدعم هذه التوقعات.
ولا يقل الفشل المأمول لمحاولات الولايات المتحدة ردع انتشار الحرب المحلية أهمية عن ذلك. وتشعر موسكو في نفس الوقت بالقلق من تقويض هذه الجهود مع العلم أن الصين التي سيسافر إليها بوتين خلال الأسبوع الحالي تحاول وقف التصعيد أيضا، وإن كان رد فعل بكين ضعيفا إلى حد ما.
وقال الدبلوماسي الروسي قسطنطين غافريلوف لصحيفة “إزفستيا” الموالية للكرملين “أعتقد أن هذه الأزمة ستؤثر بشكل مباشر على مجريات العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”. وأضاف أن “رعاة أوكرانيا سيتشتت انتباههم بفعل الصراع في إسرائيل. وهذا لا يعني أن الغرب سيتخلى عن الأوكرانيين. لكن حجم المساعدات العسكرية سينخفض.. ومسار العملية قد ينقلب سريعا لصالح روسيا”.
◙ موسكو تفترض أن الدعم الأميركي القوي لإسرائيل سيطرح مشاكل في العلاقات مع الأوروبيين الأكثر تعاطفا مع الفلسطينيين
وتتناقض المؤامرات الروسية بشكل حاد مع دعم أوكرانيا لإسرائيل، الذي عبر عنه الرئيس فولوديمير زيلينسكي أثناء حضوره اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي في بروكسل يومي الحادي عشر والثاني عشر من أكتوبر. كما أرسل زيلينسكي طلبا لزيارة إسرائيل في الأيام المقبلة.
ويرى الأوكرانيون هجوم حماس على إسرائيل في نفس ضوء العدوان الروسي على بلادهم، ولا يعارضون الهجوم البري الإسرائيلي على غزة. وقد يؤثر هذا الموقف على موقف إسرائيل من الحرب في أوكرانيا، التي حاولت ألا تنخرط فيها، وامتنعت عن الانضمام إلى نظام العقوبات الغربية ضد روسيا. ويشكل التدخل العسكري الروسي في سوريا اعتبارا رئيسيا يدعم هذا الحذر. لكن يبرز للمحللين الإسرائيليين اليوم تراجع قدرة موسكو على الحفاظ على هذا الانتشار.
وتنازلت روسيا عن الدور المركزي في سوريا لإيران، ووسعت علاقاتها العسكرية مع طهران في هذه العملية. كما تشكل الصفقة السرية الخاصة باستيراد روسيا الصواريخ الباليستية والطائرات دون طيار الإيرانية مقابل تقنيات الصواريخ تحديا خطيرا لإسرائيل. ومن المرجح أن تتبدد توقعات بوتين بأن الحرب في الشرق الأوسط ستترك أوكرانيا منسية ومعزولة بتأكيد الوحدة الغربية وتضامن أوكرانيا مع إسرائيل.
وأثبت القتال في غزة أن التنازلات أمام حماس لا تقل خطورة عن محاولات استرضاء المعتدين. وتبقى مناشدات موسكو استئناف المحادثات مع حماس في النهاية خدمة ذاتية تهدف إلى الترويج لتقسيم أوكرانيا من خلال “عملية السلام”. ويختتم بايف تحليله بالقول “سيحل السلام في أوكرانيا، ولن تنجح إسرائيل في تطبيع العلاقات مع جيرانها العرب إلا بعد هزيمة المعتدين والإرهابيين هزيمة ساحقة”.
العرب