ليس صدفة أن يخرج المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الإمام علي خامنئي بنفسه ليعلن يوم 10 أكتوبر، أن إيران ليس لها علاقة بعملية «طوفان الأقصى»، التي قامت بها المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس. فبعد أن أثنى على المقاومين وقال «نقبّل أيادي الذين خططوا للهجوم على الكيان الصهيوني»، قال خامنئي في كلمة ألقاها خلال حفل تخرج ضباط بكلية عسكرية إيرانية، «إن أنصار النظام الصهيوني نشروا إشاعات الأيام الثلاثة الماضية تقول إن إيران تقف وراء عملية حماس، لكنهم مخطئون».
يجب أن نقر أولا أن حركة المقاومة لم تتشاور مع أحد في هذه العملية النوعية وأبقتها سرا عميقا لمدة طويلة، ولم تفصح عنها حتى إلى قياداتها السياسية في الخارج. إنها، على ما يبدو، عملية خطط لها وأعد لها ونفذها الجناح العسكري للمقاومة فقط دون التشاور مع أحد.
وزير الخارجية الإيراني أمير حسين عبد اللهيان، قام بزيارة لقطر في بداية الحرب والتقى بقيادات من حركة حماس في الدوحة، من بينهم رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، وتبين أن أسباب اللقاء كانت، إضافة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني وشجب الهجمات التي تستهدف جميع سكان غزة، إثارة مسألة إطلاق الرهائن من المدنيين. وهي رسالة لا شك واضحة وموجهة للدول الغربية مفادها أن إيران تريد أن تلعب دورا مختلفا هذه المرة. وهي الرسالة نفسها التي أطلقها في نيويورك أثناء مشاركته في جلسة مجلس الأمن التي عقدت على مستوى وزاري يوم الخميس 26 أكتوبر ثم في مقابلة مع قناة بلومبيرغ. في جولات وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان المتعددة للمنطقة، التي شملت لبنان وسوريا ومصر وقطر والسعودية ومقر الأمم المتحدة، حرص الوزير على التأكيد على ثلاث نقاط رئيسية:- دعم إيران للمقاومة ومباركة ما تقوم به؛
الخيار الأكثر معقولية الآن، هو الإبقاء على حالة المناوشات من جنوب لبنان واليمن وربما برفع الوتيرة قليلا، ولكن ضمن المقبول والمسيطر عليه. ولا يستطيع أحد أن يكون متأكدا من السيناريوهات المقبلة
– التأكيد على أن حركة حماس وحزب الله فصيلان مستقلان لا يخضعان لأوامر من إيران. وقد صدرت تصاريح واضحة تحمل هذه الرسالة. ونستطيع أن نؤكد أن الجزء الأول صحيح، لكننا لا نستطيع أن نستوعب الجزء الثاني على أن حزب الله مجموعة مستقلة تعمل وفق مصالحها الذاتية، دون التنسيق أو الترتيب، أو أخذ الضوء الأخضر من إيران؛
– التأكيد على أن إيران ليست مع توسيع الحرب، وأنها تعمل على وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية بأقصى سرعة ممكنة لقطاع غزة المحاصر. وقد صرحت البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة بأن «القوات المسلحة الإيرانية لن تدخل الحرب إلا إذا قام نظام الفصل العنصري بمهاجمة إيران أو مصالحها أو مواطنيها. أما فصائل المقاومة فهي قادرة على الدفاع عن نفسها».
الأسباب التي تفسر هذا السلوك الإيراني هي المنجزات الأخيرة التي تمت على طريق التطبيع بين الولايات المتحدة وإيران. فقد أفرجت إيران، بوساطة قطرية عن خمسة مواطنين أمريكيين (معظمهم من أصول إيرانية) وعادوا إلى مواطنهم الأصلية، مقابل ذلك أفرجت كوريا الجنوبية عن ستة مليارات دولار ساهمت في تحريك عجلة الاقتصاد الإيراني، الذي وصل مستويات كبيرة من الضعف والهشاشة. بعد تحديد أولويات إدارة الرئيس الأمريكي بايدن في مناهضة روسيا، واحتواء الصين أو عرقلة تمددها ونموها، شعرت إيران بأن الضغوط الأمريكية التي شهدتها أيام الرئيس السابق بدأت تتهاوى والعودة إلى الاتفاقية النووية كانت في طريقها للاكتمال مع بعض التعديلات المقبولة. كما أن عودة العلاقات السعودية الإيرانية بوساطة صينية فتحت شهية إيران لتطور العلاقات الإيرانية مع منطقة الخليج بكاملها بكل ما يعني ذلك من تبادل منافع تجارية واقتصادية وسياسية. وقد انعكس هذا التحسن في أجواء العلاقات بين السعودية وإيران على الحرب في اليمن، حيث خفت حدتها واستمر وقف إطلاق النار رغم عدم تجديده رسميا. أضف إلى كل ذلك الأوضاع الداخلية في البلاد، حيث زادت نسبة التبرم والاعتقالات الداخلية، خاصة بعد مقتل الفتاة مهسا أميني في سبتمبر 2022 على أيدي شرطة الآداب بسبب اختراق قواعد لبس الحجاب الصارمة. وقد حضر جنازتها في كردستان الآلاف وانطلقوا في مظاهرات عارمة قمعت بالقوة، ما اضطر حكومة رئيسي لأن تعتذر عن قتل الفتاة وتطالب بفتح تحقيق رسمي. إضافة إلى كل ما سبق، تشير استطلاعات الرأي الإيراني لانخفاض شعبية الرئيس رئيسي لنحو 28% وهو الذي انتخب بأقل نسبة في تاريخ الانتخابات الإيرانية لا تزيد عن 41% ونسبة مشاركة متدنية لم تتجاوز 49%. كل هذه العوامل تؤكد أن إيران ليست لديها، لا الإرادة ولا المزاج ولا الاستعداد ولا التأييد الشعبي للمشاركة في الحرب حتى لو تجاوز الكيان الصهيوني كل الخطوط الحمر.
حلفاء النظام الإيراني
من المعروف أن للنظام الإيراني حلفاء أساسيين في لبنان وسوريا والعراق واليمن، إضافة إلى الفصائل الفلسطينية التي تختلف عن بقية الأطراف تماما، إذ أن التحالف أو التعاون ليس عقائديا، لكنه يقوم على أساس معاداة الطرفين للنظام الصهيوني العدو الأول لإيران، والحليف الأول للامبريالية الأمريكية. والسؤال هل سيدخل حلفاء النظام الإيراني المعركة؟ والسؤال الأدق هل سيدخل حزب الله المعركة وهو الأكثر قربا وأكثر قدرة وأعظم تنظيما وأوسع خبرة من الأطراف الأخرى؟ هل سيسمح النظام الإيراني لحزب الله بدخول الحرب بكل قوته؟ أم سيبقى مستوى الاشتباك محدودا كما هو الآن، أو ربما بتوسع طفيف في شريط الاشتباكات دون قصف المدن واستخدام الصواريخ الثقيلة؟ ليس من السهل الإجابة عن السؤال الذي قد يكون موضوع خطاب السيد حسن نصر الله يوم الجمعة الساعة الثالثة عصرا بتوقيت القدس، بعد أن يكون هذا المقال قد نشر. ولكننا سنضع أمام القراء بعض المعطيات:
– هناك مقولات منتشرة بأن تبادل الرسائل بين الحزب وقوى غربية لم يتوقف أبدا. لقد وصل الحزب، خاصة عن طريق وزير الدفاع الألماني الذي زار بيروت لينقل رسائل التحذير الشديدة والقوية مفادها، أن دخول الحزب الحرب بشكل مباشر وشامل سيعرض لبنان إلى كارثة كبرى ودمار لم يعهده من قبل، وسيعرض مناطق الحزب إلى قصف شامل لا يتوقف وستكون حاملات الطائرات الأمريكية في المنطقة تراقب أي تدخل إيراني للرد عليه فورا.
– المزاج اللبناني بغالبيته الساحقة لا يؤيد فكرة دخول الحزب المعركة بكل قوته. فالحزب فقد كثيرا من شعبيته خارج الطائفة، بعد دخوله الحرب في سوريا إلى جانب النظام السوري وانفجار مرفأ بيروت وتعطيل أي تحقيق جاد في تلك الكارثة. فهل سيغامر الحزب بدخول حرب ليس من أجل لبنان كما في عام 2006 بل هذه المرة من أجل غزة؟ لماذا يتحمل الحزب لوحده هذه المسؤولية وسكان الضفة الغربية لم ينفجروا جماعيا ضد هذه الحرب؟ صحيح أن هناك أسبابا وجيهة لذلك أولها، وجود السلطة المرتبطة أمنيا بالعدو الصهيوني، فكيف للبنان الضعيف المفكك المنهك أن يتحمل مثل هذا العبء في ظل تخاذل عربي شامل يبدأ من مصر والأردن والسعودية والإمارات، ولا ينتهي إلا في المغرب. من المؤكد أن هذه الحسابات تضغط بشكل جاد على ذهن السيد نصرالله.
– المشكلة أن السيد نصرالله وضع لنفسه خطوطا حمرا وقد يصبح أسيرها، وسيخسر الكثير من مصداقيته إذا تراجع عن تلك الخطوط. أول تلك الخطوط اجتياح غزة وثانيها تهجير سكان القطاع. وهنا يثار سؤال مهم، أليست المذابح المتلاحقة في ظل حصار قاتل يشمل أساسيات الحياة من ماء وكهرباء ودواء وغذاء ومحروقات، يشكل حرب إبادة أمام عيون العالم والحزب؟ وهل سيكون التدخل مجديا، أو ذا أهمية لملايين الغزيين، بعد أن يكونوا قد فقدوا عشرين ألفا أو ثلاثين ألفا وجرح منهم خمسون ألفا أو ثمانون ألفا وهدم نصف القطاع أو ثلثاه، ودمرت غالبية المؤسسات أو كلها. ما الفائدة من التدخل حينها؟
– النقطة الأخرى التي لا بد للحزب أن يحسب لها حسابا دقيقا هي: هل يريد الحزب أن يورط المنطقة كلها في حرب شاملة؟ ما الذي يمنع الغرب الكولونيالي من أن يتدخل رسميا لإنقاذ قاعدتهم العسكرية المتقدمة، إذا شعروا بأن خطرا وجوديا يتهددها؟ الفلسطينيون من جهتهم، هذا ما يتمنون، لكن أمنيات الفلسطينيين الذين يدفعون من دمهم ولحمهم ثمن عجز هذه الأمة وإغلاق الجيوش العربية حدودها مع الكيان وتحويل مدافعهم وطلقاتهم نحو شعوبهم. الحزب في هذه الحالة، منطقيا لا يستطيع أن يدخل الحرب الشاملة دون ضوء أخضر من إيران، وهذا يعيدنا إلى ما قلناه أعلاه.
الخيار الأكثر معقولية الآن، هو الإبقاء على حالة المناوشات من جنوب لبنان واليمن وربما برفع الوتيرة قليلا، ولكن ضمن المقبول والمسيطر عليه. إلا أن أحدا لا يستطيع أن يكون متأكدا من السيناريوهات المقبلة على وجه اليقين. فكل الاحتمالات الآن واردة.