قطاع غزة يشكل شريطا ضيقا يتراوح عرضه بين 6 و12 كيلومترا، ويصل طوله إلى 41 كيلومترا، وليس ثمة مسافات حقيقية بين التجمعات السكانية الكثيفة، مدنا ومخيمات.
ووفقا لأرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد سكان القطاع 2.23 مليون نسمة عام 2023، وهو ما يجعل المعركة في غزة معركة مدن بامتياز.
في العراق لم تكن معركة الموصل المعركة الأولى التي انتصر فيها استخدام «القوة الغاشمة « كما وصفها آموس فوكس في دراسته عن المعركة، فقد سبقتها معركة الفلوجة الثانية. حيث أشارت دراسة نشرها معهد الحرب الحديث عن تلك المعركة بأن العملية العسكرية صممت ليس فقط لتحقيق الانتصار، بل لتحقيقه بسرعة لعدم رغبتهم في إطالة المعركة في منطقة حضرية. ولعل أهم ما ورد في الدراسة هو الحديث عن القوة النارية «الساحقة» التي استخدمت فيها. وتنقل الدراسة عن أحد قادة سرية دبابات أنه خلال ثمانية أيام من القتال العنيف، وضمن اهداف تقع ضمن مسافة 200 مترا فقط: «أطلقت دبابته هو شخصيا ما يقرب من 1600 طلقة مدفع رئيسي، وأكثر من 121 ألف طلقة مدفع رشاش عيار 7.62 ملم، وأكثر من 49 ألف طلقة مدفع رشاش عيار 50 ملم». وأنه بسبب «العنف الساحق المطلوب» في حرب المدن تضرر أكثر من 60٪ من مباني الفلوجة، ودمر 20٪ منها بشكل كامل.
بتاريخ 26 آذار/ مارس 2017، وأثناء سير معركة الموصل التي استغرقت تسعة أشهر أو 252يوما حيث بدأت هذه المعركة في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 وانتهت في 20 يوليو/ تموز 2017!
وقد قدّرت دراسة حديثة نشرها معهد الحرب الحديثة عن معركة الموصل، خسائر القوات المهاجمة بأنها «ربما تصل إلى 8200» مقاتل، فيما قدرت عدد الضحايا المدنيين بنحو 10 آلاف، وقدرت الأمم المتحدة أنه في المدينة القديمة وحدها هناك أكثر من 5 آلاف مبنى تضرر، مع 490 مبنى دمر بشكل كامل، وأنه لحق الضرر أو التدمير 40 ألف مبنى بشكل عام.
كما تشير الدراسة إلى أن استخدام التحالف المتكرر للذخائر الموجهة بدقة في معركة الموصل، أدى إلى خفض المخزون الاستراتيجي للولايات المتحدة بشكل شديد وخطير!
وأن من الدروس التكتيكية لهذه المعركة فيما يتعلق بحرب المدن، هو «الحاجة إلى استخدام الدروع وحمايتها لضمان النصر» وأنه قد ثبت أنه بدون استخدام المدرعات في العمليات الحضرية يمكن للمعركة أن تطول كثيرا.
على الرغم من أوجه التشابه الكثيرة بين معركتي الفلوجة الثانية والموصل، ومعركة غزة الجارية حاليا، ومحاولة تطبيق الجيش الإسرائيلي للكثير من الدروس المستفادة من هاتين المعركتين (العزل، التحشيد الكبير، القوة الغاشمة، استخدام الدروع) إلا أن ثمة أوجه اختلاف جوهرية
وقد نشرت المجلة المهنية للجيش الأمريكي مقالا بعنوان: «خمسة دروس عملية من معركة الموصل» افتُتِحَ المقال بالقول إن العمليات القتالية واسعة النطاق في المستقبل في المناطق الحضرية، ستكون مماثلة لمعركة الموصل: تشكيلات عسكرية كبيرة تقوم بعمليات متعددة المجالات كقوى تحالف في البيئات الحضرية الكثيفة. وأن الملاحظات التي يجب أن توجه المقاربة العملياتية لمعارك المدن القادمة هي: أولا استحالة عزل مدينة حديثة لأن المجال السيبراني المنتشر يحول دون العزلة التكتيكية. ثانيا تزداد الصعوبة مع العمق والمدة وتعزى هذه الظاهرة تاريخيا إلى إطالة خط التحكم المحلي بالنسبة للمهاجم مقارنة بتقصير خط الهجوم للمدافع، وإلى الظاهرة الأخيرة المتمثلة في أن الاستهداف يصبح أكثر صعوبة مع انخفاض مجموعات الأهداف القابلة للتنفيذ بمرور الوقت. ثالثا يفقد المهاجمون زمام المبادرة بمجرد دخولهم المدينة: عاصفة أو حصار هو الخيار الحر الأخير للمهاجم. رابعا التضاريس الحضرية الكثيفة تعزز الاستدامة: المدن تكمّل وتكمِل الاستدامة العسكرية. خامسا يتناسب المدى العملياتي مع الدعم السكاني: يمكن للسكان المحليين أن يساعدوا بشكل ملموس، أو يعيقوا، توظيف القوة القتالية على المستوى الاستراتيجي.
على الرغم من أوجه التشابه الكثيرة بين معركتي الفلوجة الثانية والموصل، ومعركة غزة الجارية حاليا، ومحاولة تطبيق الجيش الإسرائيلي للكثير من الدروس المستفادة من هاتين المعركتين (العزل، التحشيد الكبير، القوة الغاشمة، استخدام الدروع) إلا أن ثمة أوجه اختلاف جوهرية تكمن أولا في حجم المساحة الكلية لأرض المعركة، فالفلوجة مدينة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 25 كيلومترا مربعا، فيما لا تزيد مساحة مدينة الموصل بجانبيها عن 112.6 كيلومتر مربع، في حين تبلغ مساحة قطاع غزة، الذي يشكل مدينة ممتدة، 362 كيلو مترا مربعا تمتاز ببنية حضرية متقاربة ومتداخلة. الاختلاف الجوهري الثاني يتعلق بالكثافة السكانية، ففي معركتي الفلوجة الثانية والموصل كانت الغالبية العظمى من السكان قد غادرتهما، ولم يتبق إلا عدد قليل نسبيا، في حين لا إمكانية لأهالي قطاع غزة لمغادرتها، فإسرائيل لن تسمح لهم بالدخول إليها، وموقف مصر واضح وصريح تجاه منع إعادة هجرة الفلسطينيين مرة ثانية، وبالتالي سيشكل وجود هذا العدد الكبير من السكان عاملا حاسما في سياق هذه المعركة، خاصة بعد فشل محاولة إسرائيل في الدفع بأهالي شمال غزة للانتقال بالكامل إلى جنوبها. الاختلاف الجوهري الثالث يتعلق بعدد المقاتلين، فالتقديرات الامريكية لعدد المقاتلين المحليين في معركة الفلوجة الثانية كان يتجه نحو 3 آلاف مقاتل على أبعد تقدير، وفي معركة الموصل تراوحت التقديرات بين 3 آلاف و12 ألف مقاتل، في حين تتحدث تقديرات حلف الناتو عن ما بين 20 ألفا و30 ألف مقاتل تابع لحماس وحدها. وإذا أضفنا اليها ما يزيد عن عشرة آلاف مقاتل تابعين لحركة الجهاد الإسلامي وشهداء الأقصى وكتائب أبو علي مصطفى وكتائب المقاومة الوطنية، فضلا عن فصائل أخرى، فسنكون أمام رقم كبير. الاختلاف الجوهري الرابع يتعلق بطبيعة التسليح، فمقاتلو الفلوجة والموصل كان تسليحهم الرئيس السلاح الخفيف والمتوسط، وبعض الصناعات المحلية المتعلقة بالعبوات الناسفة. وفي معركة الموصل دخلت السيارات المفخخة والدرونز البسيطة في تسليحهم، أما في غزة فنحن أمام تسليح أكثر تطورا، وثمة بنية تصنيعية محلية لهذه الأسلحة. الاختلاف الجوهري الخامس يتمثل في شبكة الأنفاق التي تعطي للمقاتلين المحليين القدرة على الاختفاء ومباغتة العدو الأمر الذي يضيف عاملا حاسما إلى التضاريس الحضرية التي تعزز الاستدامة العسكرية، أما الاختلاف الجوهري الأخير فيتمثل في «المظلومية الفلسطينية» التاريخية وقدرتها على كسب تعاطف دولي من جهة، وإحراج الفاعلين الدوليين المتماهين مع الموقف الإسرائيلي، لأن سقوط هذه الأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين الفلسطينيين بسبب القوة الغاشمة التي تعتمدها إسرائيل، سيحرج بالضرورة، الأمريكيين والأوروبيين، وسيحرج المنظمات الدولية ويضطرها إلى الاعتراف بأن ما تقوم به إسرائيل هي جرائم حرب واضحة، وجرائم ضد الإنسانية وتصل إلى تصنيفها جريمة إبادة الجماعية، وهو ما ينزع عن إسرائيل أي غطاء قانوني أو أخلاقي.