شهدت الكويت منذ كارثة الغزو والاحتلال العراقي وبعد التحرير قبل ثلاثة عقود تحولات كبيرة على الصعيدين الداخلي والخارجي. شهدنا تحولا في عقيدة سياسة الكويت الخارجية وتحالفا وثيقا مع الولايات المتحدة، بعدما كانت الكويت في معسكر الصقور في توازناتها الأمنية والدفاعية وتطبق بصرامة «الحياد الإيجابي» في حقبة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة والغرب والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي برفض إقامة قواعد عسكرية لأي من المعسكرين – خاصة بعد إعلان الرئيس جيمي كارتر مبدأه وعقيدته – بأهمية منطقة الخليج للمصالح الحيوية الأمريكية وتشكيل قوات التدخل السريع والرفض الخليجي بإقامة قواعد عسكرية أمريكية مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
وساهمت الكويت بتعزيز دور ومكانة مجلس التعاون لدول الخليج العربية – لكن الغزو والاحتلال العراقي – جعل الكويت تعاني من عقلية الحصار والدفاع والانكماش والتركيز على أمن الكويت أولاً وأخيراً دون أن يتراجع دورها القيادي في دبلوماسية الوساطة والقروض والمساعدات التنموية والعمل الخيري والإنساني، وتطوير الكويت دبلوماسية حل النزاعات وصناعة السلام في المنطقة. لذلك نشطت الكويت وقادت مبادرات المصالحة ودبلوماسية الوساطة في الأزمة الخليجية الأخيرة التي شملت ثلاثة أرباع دول مجلس التعاون عام 2017-2021.
هناك اليوم شعور بالتفاؤل الشعبي، نأمل نجاح حزم العهد الجديد بتصحيح المسار وتدشين مرحلة مثمرة من التعاون الجاد بين السلطتين في الكويت
وأنهك الكويت الصراعُ الدائم بين الحكومة ومجلس الأمة – تمثل بحل متكرر لمجالس الأمة، وباستقالات الحكومات – حتى وصل عدد مجالس الأمة التي تم حلها وإبطالها دستورياً عشرة مجالس أمة لم تكمل مددها الدستورية 4 سنوات، وإبطال ثلاثة مجالس أمة منتخبة، منها إبطال مجلسين عام 2012 وإبطال مجلس 2022 في مايو/ايار 2023.
شهدت دولة الكويت تشكيل أربع وأربعين حكومة متعاقبة منذ الاستقلال الكامل عام 1961. شكل رئيس الوزراء حكومته الأولى في آب/أغسطس 2022، والأخيرة التي استقالت وقبِل سمو الأمير الاستقالة عملاً بأحكام الدستور بعد تنصيب أمير جديد، إثر تولي الأمير الجديد منصبه. وكان الشيخ أحمد النواف شكل 4 حكومات خلال 16 شهراً جميعها استقالت، حتى صار عمر الحكومات يقاس بالأشهر ما يحدث ربكة وتعطيل مشاريع التنمية والتطوير المستدام، بسبب الصراعات وانسداد الأفق الدائم بين السلطتين.
ما يحدث مأزق سياسي دائم، وشعور عام بالإحباط، والمطالبات بعقد مؤتمر حوار وطني لعلاج انسداد الأفق وانتشال البلاد من حالة الجمود السياسي وإعادة الحيوية للكويت صاحبة أول دستور مكتوب وأول برلمان منتخب في المنطقة. وطورت قوتها الناعمة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية معتمدة على قطاعها النفطي وامتلاكها 10% من احتياطات النفط العالمي، ورابع منتج للنفط في منظمة أوبك، وتمتلك رابع أكبر صندوق سيادي في العالم، والريادة الثقافية العربية بمنشورات وزارة الإعلام والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عبر إصدارات مجلات: العربي، وعالم الفكر، وعالم المعرفة، وفي الرياضة والمسرح والتلفزيون، ساهمت بتعريف وتقريب العالم العربي.
كان لافتا وغير مسبوق توجيه أمير دولة الكويت الشيخ مشعل الأحمد الصباح، الذي كلفه بسبب الحالة الصحية للأمير الراحل الشيخ نواف الأحمد – الأخ غير الشقيق – بمسؤوليات دستورية واسعة منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2021- والذي وجه نيابة عن الأمير الكثير من التوجيه والنصح لإصلاح مسار العلاقات بين السلطتين خلال العامين الماضيين. كان آخرها في افتتاح انعقاد الدورة الثانية لمجلس الأمة السابع عشر الحالي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بخطابه نيابة عن الأمير: مطالبة «المواطنين بمتابعة ومحاسبة ومساءلة نوابهم ليؤدي الناخبين دورا محوريا في تحقيق
أهداف العهد الجديد».
وكان معبراً تأكيده في خطابه «استمرار نهج ودور دولة الكويت مع الدول الشقيقة والصديقة في مختلف القضايا والموضوعات ذات الاهتمام المشترك، محافظين على التزاماتنا الخليجية والإقليمية والدولية».
لكن خطاب الأمير الشيخ مشعل الأحمد الأول بعد أداء القسم الدستوري في مجلس الأمة لافتا تأكيده بشكل صارم وصريح وشفاف نقده غير المسبوق للسلطتين، الحكومة والمجلس معاً، وتوجيه توبيخ علني أمام الأمة في الكويت في خطاب ثوري ومستحق تم نقله على الهواء مباشرة وتابعه الشعب الكويتي في تعليق الجرس لإصلاح المسيرة الديمقراطية والعلاقة بين السلطتين.
لم نعهد في الخطاب السياسي في الكويت هذا الطرح الشفاف والنقد الجريء من رأس الهرم بانتقاد وتوبيخ السلطتين معاً!! وخاصة إشارة الشيخ مشعل الأحمد الصباح «أكدنا في خطاباتنا السابقة بأن هناك استحقاقات وطنية ينبغي القيام بها من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية لصالح الوطن والمواطنين وبالتالي لم نلمس أي تغيير أو تصحيح للمسار بل وصل الأمر إلى أبعد من ذلك عندما تعاونت السلطتان التشريعية والتنفيذية واجتمعت كلمتهما على الإضرار بمصالح البلاد والعباد… وما حصل في تعيينات المناصب دليل على عدم الانصاف… وما حصل من تغيير للهوية الكويتية، وما حصل في ملف العفو وتداعياته والتسابق لملف قانون رد الاعتبار لإقراره (للنواب السابقين) لهو خير شاهد على مدى الإضرار بمصالح البلاد ومكتسباتها الوطنية. ومما يزيد الحزن والألم سكوت أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية عن هذا العبث المبرمج لهذه الملفات وغيرها مما أسبغ عليها صفة الشرعية وكأن الأمر أصبح بهذا السكوت يمثل صفقة تبادل المصالح والمنافع بين السلطتين على حساب مصالح الوطن والمواطنين»…
لقي خطاب الأمير الشيخ مشعل الصباح صدى إيجابيا وترحيباً من مجاميع الناخبين والشعب الكويتي حيث تصدر خطابه وسائط التواصل الاجتماعي ومانشيتات الصحف وتفاعل المغردون مع مضامين الخطاب.
أصدر 30 من 49 نائباً بياناً مشتركاً بعد يومين من خطاب الأمير – بعد مطالبات ناشطين للنواب بالاستقالة عقب سيل الاتهامات – بتأكيدهم «بذل قصارى الجهد لتحقيق غايات الإصلاح المنشود، مع تأكيدهم إعمال المادة 50 من الدستور بفصل السلطات وتعاونها. كما أقر مجلس الأمة 14 قانوناً في 4 أشهر». هناك اليوم شعور بالتفاؤل الشعبي، نأمل نجاح حزم العهد الجديد بتصحيح المسار وتدشين مرحلة مثمرة من التعاون الجاد بين السلطتين في الكويت!