لم تنكشف إيران يوماً كما هي عليه الحال الآن. منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي راحت ميليشياتها في دول الإقليم تتوسّع أكثر. انكفاؤها عن معركة وضعت الإقليم على خطّ الانفجار سحب منها “حصرية” قيادة معركة فلسطين.
صار وجودها في الإقليم يرتّب أكلافاً باهظة تضاف إلى غيرها. فهي تحرّك أذرعتها من غزة إلى لبنان ثمّ سوريا والعراق وصولاً إلى اليمن. لا بل تحضّها على قتال مفتوح لا أفقَ مرئياً له، إلا عند النظام الإيراني الذي يفاوض على أنقاض هذه الدول.
هو يقدّم نفسه الدولة القادرة على ضبط اللادول أو الدويلات في هذه الأوطان. وهو يعرف عن يقين ومن تجارب كثيفة سابقة عليه أنّ إرهاب الدويلات يُحارب. أمّا إرهاب الدولة فيتمتّع بقابلية عالية للتسييل وإعادة التدوير في الدبلوماسية والدور والحضور.
إذا كانت قوّتها قبل “طوفان الأقصى” فيها شيء من الخيال من خلال امتياز تحويل كلّ شيء إلى مصدر لهذه القوة، إلا أنّ الأيلولة الكارثية لأحوال المنطقة كشفت أنّها تفاوض على حساب الجميع لدخول الإطار العالمي الحداثي، وهي الواقفة على أبوابه منذ الثورة الخمينية عام 1979.
الانكشاف والخطأ
في معاينة الحرب القائمة، هناك عبارتان تتعادلان في الخطأ: الأولى، مضمونها أنّ المكاشفة ليس أوانها الآن. الثانية هي أنّه لولا نظام الملالي ما كان للحقّ الوطني الفلسطيني أيّ حظّ في البقاء على قيد الحياة.
القاسم المشترك بين القولين يربط إيران ربطاً حصرياً وتعادليّاً بحقّ الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، كما أنّه ينكر على الفلسطينيين تاريخاً من الكفاح لإقامة وطنهم. لكنّ ما حصل ويحصل هو أنّ العبارتين وجدتا صدّاً منيعاً.
لم تنكشف إيران يوماً كما هي عليه الحال الآن. منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي راحت ميليشياتها في دول الإقليم تتوسّع أكثر
هكذا لم تفلح إطلالات الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله في إعادة إيران إلى ما كانته إعلامياً. في الأصل والأساس، كانت هذه الإطلالات تنشطر إلى نوعين: عرض حال، واستخلاص لوقائع مفتوحة للجميع.
محنة الأسئلة
ما الذي تنتظره إيران حتى تدخل في رحى معركة كبرى أشعلتها قبل عقود أربعة، وتحديداً منذ قيام الجمهورية الإسلامية على أنقاض نظام الشاه وتموضعه السياسي؟ ما الذي تنتظره منذ عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها حليفتها حركة حماس على غلاف غزة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة؟ أين “زحفاً زحفاً نحو القدس”؟ أين الشعارات التي لا ينفكّ مسؤولو النظام الإيراني وقادته يردّدونها؟ أذرعها الأمنية والعسكرية في المنطقة صارت “إذا أصابتها سهام تكسّرت النصال على النصال”. فهي لا تني تتلقّى الضربات في صدرها.
الشيطان الأكبر في عقر “ديارها” من العراق إلى اليمن مروراً بلبنان وسوريا وفلسطين. الشيطان الأصغر كذلك. أبعد من ذلك، الشيطانان يضربان في عمق بيتها الداخلي، ويطالان “ملائكتها” أنّى كانوا، من طهران إلى فلسطين مروراً بالعراق فسوريا ولبنان.
سالبتان تصنعان واقعاً
44 سنةً هي عمر النظام القائم في إيران حتى اليوم. 44 سنةً لم تقاتل خلالها إيران بلحمها الحيّ إلا زمن الحرب العراقية الإيرانية. منذ عام 1979، وهي تعزف لحن الشيطانين، وتهدّد وتتوعّد. ومنذ عام 1979 ونحن ننتظر ونترقّب. لا الشيطانان أزاحا نظام الملالي، ولا الأخيرون طردوا الشيطانَين، أو “طهّروا” المنطقة منهما.
إذا كانت قوّة إيران قبل “طوفان الأقصى” فيها شيء من الخيال من خلال امتياز تحويل كلّ شيء إلى مصدر لهذه القوة، إلا أنّ الأيلولة الكارثية لأحوال المنطقة كشفت أنّها تفاوض على حساب الجميع
بُعيد السابع من تشرين الأول الماضي، شنّت إسرائيل حرباً على قطاع غزة، حرباً لا تبقي ولا تذر، مستخدمةً أشدّ أنواع الأسلحة فتكاً، برّاً وبحراً وجوّاً. هي حرب ترقى إلى جرائم الإبادة الجماعية، ولكنّها، على الرغم من ذلك، لا ترقى إلى مستوى استدعاء تدخّل إيراني فعليّ.
لسان حال إيران منذ السابع من تشرين الأول الماضي يردّد مع الشاعر العربي: “لا خيل عندك تهديها ولا مال… فليسعف النطق إن لم تسعف الحال”. بل هذا لسان حالها منذ عام 1979. ومنذ ذاك العام، لا الحال تسعف ولا النطق. فما فائدة الكلام بعد مئة يوم من الحرب الإسرائيلية على غزة؟ وما جدواه بعد ما يقارب خمسةً وعشرين ألف شهيد وآلاف الإصابات والمفقودين والنازحين والمهجّرين؟ هل يعيد الكلام بناء 70% من المنازل والمباني والبنى التحتية في غزة؟ أين “الثوار” الإيرانيون من كلّ ما يجري؟ أين نظام الملالي “الإسلامي”؟ أين الوليّ الفقيه؟
مسرح ببطل خلف الستائر
قبل يومين، شنّت الطائرات الحربية الأميركية والبريطانية غارات على مواقع مختلفة في اليمن تابعة لحليف إيران عند باب المندب، أي جماعة الحوثي. قبلها استهدفت مقرّاً للحشد الشعبي العراقي، ذراع إيران العسكرية في العراق، وقتلت خليفة “أبي مهدي المهندس” الذي اغتالته أميركا نفسها قبل أربعة أعوام مع قائد فيلق القدس قاسم سليماني، “أبا تقوى”.
بالمناسبة، أين “فيلق القدس”؟ وقبل اليمن والعراق، استهدف الشيطان الأصغر سوريا من أقصى حدودها مع العراق إلى أدنى حدودها مع فلسطين المحتلّة. وقبل الاستهدافات تلك، وفي أثنائها وبعدها، تشنّ إسرائيل، الشيطان الأصغر، حرباً مكتملة الأركان والعناصر على لبنان، وإن في بقعة جغرافية صغيرة ومحدّدة تتجاوزها بين الضربة والضربة، وتخرق القرار 1701 مع كلّ اعتداء تخرق به السيادة اللبنانية.
يجري ذلك كلّه على “مسرح الشرق الأوسط”، بينما يقف البطل خلف الستارة، أي داخل الحدود الإيرانية، متفرّجاً ومطلقاً العنان لمسؤوليه من أعلى الهرم إلى أدنى مسؤول فيه، ليهدّدوا ويتوعّدوا ويستنكروا ويشجبوا ويتضامنوا… ويتفاوضوا.
حدث هذا كلّه ولا يزال يحدث، بينما يُراق الدم الفلسطيني منذ مئة يوم في غزة ويُدكّ العراق وسوريا ولبنان واليمن بصواريخ وغارات “الشيطانَين”، بينما تعلن إيران أنّ عملية “طوفان الأقصى” واحدة من عمليات الثأر لمقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، قبل أن تتراجع عن زعمها هذا مؤكّدةً أنّها عملية فلسطينية بالكامل.
إقرأ أيضاً: إيران: وحدة الصفقة وتجزئة الساحات..
يحدث هذا كلّه بينما القوات المسلّحة الإيرانية وصواريخها على أتمّ جاهزية. ولمن يفقه الحروب جيّداً، يُدرك أنّ الجاهزية التامّة هذه لا تنفع أو لا تشي بغير الدفاع، بينما الهجوم يعتمد في جزء كبير منه على عنصرَي المباغتة والمفاجأة، وهما العنصران اللذان تفجع بهما إيران حلفاءها وأذرعها السياسية بعد كلّ مجزرة وكلّ اعتداء، وفي كلّ تصريح.
أن يكون هذا ظالماً ووحشياً بحقّ الفلسطينيين فذلك ثابت وأكيد، إلا أنّ إيران في ضمان مصالحها عبر أذرعتها فهي كالحديث عن الخمر في النصّ الكهنوتي: قليل منه منعش، أمّا كثيره فقاتل ومُهلك. وحرب على هذا القدر من الاتّساع ما عادت تُحلّ بالبيانات، فهذه لا تُعالج شيئاً.