دائماً ما تدعي إيران أنها ليست معنية بدراسة هوية المتنافسين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية واستشراف من سيكون الرئيس الأمريكي القادم. فالكل، حسب مزاعمها، سواء. لكن قراءة واقعية على الأرض توحي بأن إيران تبدو أكثر المعنيين بما سوف تؤول إليه الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة التي سوف تجرى في 5 نوفمبر 2024، وما إذا كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب سيتمكن أولاً من الوصول إلى ساحة التنافس، رغم العقبات التي يواجهها، وسيستطيع ثانياً الفوز بولاية رئاسية جديدة، بعد أن أخفق في الاحتفاظ بمنصبه في الانتخابات الرئاسية السابقة التي أجريت في عام 2020.
هنا، فإن ثمة اعتبارات ثلاثة رئيسية تدفع إيران إلى متابعة ورصد تطورات ما يجري في الداخل الأمريكي حالياً، وصولاً إلى 5 نوفمبر القادم. أولها، أن هناك اشتباكات وتفاهمات في الوقت نفسه مع الإدارة الحالية برئاسة الرئيس جو بايدن الذي يسعى إلى تجديد ولايته الرئاسية لمدة أربعة أعوام أخرى، سواء بسبب الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وارتداداتها في الساحات الإقليمية المختلفة، أو بسبب تعثر المفاوضات التي أجريت حول الاتفاق النووي، أو بسبب برنامج الصواريخ الباليستية الذي رفع الحظر الأممي المفروض على الأنشطة المرتبطة به في 18 أكتوبر الماضي.
وثانيها، أن هناك ما تسميه دوائر عديدة في طهران “ثأراً قديماً” مع الرئيس السابق دونالد ترامب. فالأخير أصدر قراراً بالانسحاب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وأعاد فرض العقوبات الأمريكية على إيران بداية من 7 أكتوبر من العام نفسه.
ورغم أن هذه الإجراءات أنتجت تداعيات صعبة على إيران، لاسيما على المستوى الاقتصادي، بشكل منعها من الاستفادة من “الامتيازات” التي وفرها الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة “5+1” في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في 14 يوليو 2015، إلا أن الضربة الأقوى التي وجهها ترامب إلى إيران كانت في قراره باغتيال القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في عملية عسكرية نفذت في بغداد في 3 يناير 2020.
وربما يمكن القول باطمئنان إن إيران لم تنجح في استيعاب تلك الضربة حتى الآن، على نحو يمكن رصده بوضوح في الصعوبات التي تواجهها فيما يتعلق بالتنسيق مع المليشيات الموالية لها في دول الأزمات- رغم النفوذ الذي تمتلكه لدى الأخيرة- فيما يتعلق بضبط مستوى التصعيد مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة في 7 أكتوبر الماضي.
بل إن جانباً من أسباب مسارعة إيران إلى محاولة الضغط على تلك المليشيات للتوقف عن مهاجمة القواعد الأمريكية في العراق وسوريا خلال الأسبوعين الأخيرين، بعد الهجوم الذي تعرضت له القاعدة الأمريكية في شمال شرق الأردن في 28 يناير الفائت وأسفر عن مقتل 3 جنود أمريكيين، يعود إلى خشيتها من أن تكرر إدارة بايدن التجربة نفسها وتقوم باغتيال القائد الحالي لفيلق القدس اسماعيل قاآني المسئول عن إدارة العمليات الخارجية في الحرس الثوري.
وثالثها، أن وصول الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجدداً يمكن أن يعزز، في رؤية اتجاهات في طهران، من احتمال انخراطها في حرب مباشرة، وهو “المحظور” الذي تبذل جهوداً حثيثة باستمرار من أجل تجنبه، منذ انتهاء الحرب مع العراق في عام 1988.
وهنا، فإن ذلك ليس بالضرورة معناه أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هى الطرف الآخر المنخرط في تلك الحرب. بل إن الطرف المرشح لهذه المواجهة هو إسرائيل، التي قد تحفزها عودة ترامب إلى البيت الأبيض على تبني الخيار العسكري في التعامل مع إيران، في ظل التغير الذي قد يطرأ على التخطيط الاستراتيجي الإسرائيلي، والذي قد تفرضه عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “كتائب القسام”- الذراع العسكرية لحركة حماس- ضمن تداعياتها العديدة التي وصلت ارتداداتها إلى أنحاء مختلفة من منطقة الشرق الأوسط، وربما تتعداها، في مرحلة لاحقة، إلى الساحة الدولية.
خيارات طهران
هنا، كان لافتاً أن إيران بدأت في توجيه رسائل استباقية. صحيح أن هذه الرسالة تبدو، في قسم منها، موجهة إلى إسرائيل أيضاً، التي ربما تسعى إلى مواصلة الحرب مع الأطراف المناوئة لها، وفي مقدمتهم إيران. لكنها في الوقت نفسه رسائل تحمل مغزى ودلالات خاصة لا تنفصل عن محاولات إيران الاستعداد مبكراً لاحتمال عودة ترامب.
أول هذه الخيارات، وربما أحدثها، هو التلويح بإنتاج القنبلة النووية. ورغم أن إيران دائماً ما تزعم أن برنامجها النووي للأغراض السلمية، مستندة إلى الفتوى التي سبق أن أصدرها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي بتحريم تخزين وإنتاج القنبلة النووية، إلا أنها بدأت في الآونة الأخيرة تلمح إلى أن هذا الخيار قد لا يمكن استبعاده بعد ذلك.
وقد انعكس ذلك بوضوح في حلقة البرنامج الحواري التليفزيوني “برمودا” التي استضافت الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية وزير الخارجية الأسبق على أكبر صالحي، في 11 فبراير الجاري.
فقد بدا لافتاً في هذا الحوار- الذي من المفترض أن يكون قد جرى عرض الأسئلة الخاصة به على الضيف مسبقاً- أن المذيع، وهو كامران نجف زاده، الذي يعد أحد الصحفيين المثيرين للجدل باستمرار، وجه سؤالاً مباشراً إلى صالحي مفاده: هل لدينا القدرة على تصنيع القنبلة النووية؟
وكان رد صالحي كالآتي: “لدينا كل مكونات العلوم والتكنولوجيا النووية. دعوني أضرب مثالاً، ماذا تحتاج السيارة؟، إنها تحتاج إلى هيكل، وتحتاج إلى محرك، وتحتاج إلى عجلة قيادة، وتحتاج إلى صندوق تروس. هل صنعنا صندوق التروس؟ أقول نعم، وكذلك محرك؟ ولكن لكل منهما غرضه الخاص”.
وهنا، فإن المعنى المباشر لذلك هو أن إيران لديها كل القدرات التقنية التي تستطيع من خلالها الوصول إلى مرحلة امتلاك القنبلة النووية، مع استمرار الأبحاث والتطوير حول مكونات أخرى لازمة مثل المفجر النووي. وبمعنى آخر، فإن المسألة بالنسبة لإيران لم تعد مسألة إمكانيات وإنما باتت مسألة وقت، الذي يرتبط بوجود “إرادة سياسية”، أو قرار استراتيجي بالعمل على إنتاج القنبلة.
هذا المعنى تحديداً هو الذي دفع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي إلى التعليق على تصريحات صالحي بقوله أن إيران لا تتعامل بشفافية فيما يتعلق بالبرنامج النووي، مضيفاً: “إن هناك حديثاً فضفاضاً عن الأسلحة النووية على نحو متزايد، بما اشتمل على إيران مؤخراً. قال مسئول إيراني رفيع المستوى للغاية (في إشارة إلى صالحي) في الواقع إن لدينا كل شيء في حالة تفكيك. حسناً، من فضلك أخبرني بما لديكم”.
الصواريخ الجوّالة
هذا التلويح بخيار إنتاج القنبلة النووية توازى مع تطور آخر طرأ على برنامج الصواريخ الباليستية المثير للجدل باستمرار. فلأول مرة، تعلن إيران، في 13 فبراير الجاري- أى بعد يومين من تصريحات صالحي- عن إطلاق صاروخين باليستيين من طراز “فاتح” يصل مداهما إلى 1700 كيلومتر، عبر سفينة في البحر.
وهنا، فإن الرسالة تبدو واضحة ومفادها أن نطاق عمل الصواريخ الباليستية الإيرانية- حسب رؤية طهران- لم يعد منحصراً في منطقة الشرق الأوسط، أو بمعنى أدق لم يعد منحصراً- جغرافياً- في الحد الأقصى الذي يمكن أن تصل إليه الصواريخ الباليستية الإيرانية وهو 2000 كيلومتر، بل إنه يمكن أن يصل، بواسطة السفن، إلى أى نقطة في العالم.
وقد عبّر قائد الحرس الثوري حسين سلامي عن ذلك بصراحة عندما قال: “يمكن لسفننا العابرة للمحيطات أن تتواجد في أي مكان في المحيطات، وبطبيعة الحال، عندما نتمكن من إطلاق الصواريخ منها، فلا يوجد مكان آمن لأي قوة تريد زعزعة أمننا”.
وهنا، فإن المعنى المباشر لذلك هو أن “بنك الأهداف” الذي حددته إيران سابقاً لم يعد ينحصر في إسرائيل والقواعد الأمريكية في المنطقة، وإنما بات، حسب الرؤية الإيرانية، أوسع من ذلك بكثير.
من دون شك، قد تكون هناك مبالغات في الرواية والاستعراضات العسكرية الإيرانية، خاصة أن إيران دائماً ما تعتمد على البروباجندا، لكن ذلك في النهاية لا ينفي دلالة مهمة وهى أن إيران لم تعد تستبعد أن تنخرط في حرب مباشرة، وأن احتمال نشوب هذه الحرب قد يتزايد في حالة ما إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض مجدداً.
لكن المفارقة تكمن في أن هذا الاحتمال بقدر ما سيجعل إيران تواصل سياسة استعراض قدراتها العسكرية والنووية، بقدر ما سيدفعها إلى محاولة الوصول إلى تفاهمات مع ترامب، رغم ما بينهما من خلافات و”ثأر قديم”. فالهدف واحد في الحالتين، وهو تجنب الحرب المباشرة.