شهد عام 2015 حوادث وأعمالا إرهابية على نطاق واسع، شملت مساحات واسعة، وغطّت دولاً وقارات متباعدة، والأمر ليس بمعزل عن ثقافة التطرّف والإرهاب، تلك التي تفشّت في أوساط غير قليلة، وهيمنت على عقول بعض الشباب، ودفعتهم أحياناً للتفريط بحياتهم، مقابل وعود زائفة بحياة أخرى، حتى وإن جاءت بعد قتل وإبادة آخرين.
التطرّف والتكفير ظاهرتان تكادان تشغلان الناس في مجتمعاتنا وفي مجتمعات أخرى، بما فيها المتقدّمة، لأنهما أصبحا لا يهدّدان السلم المجتمعي والحياة العامة والعلاقات بين الناس فحسب، بل السلم والأمن الدوليين، خصوصاً إذا تحوّلا من الفكر والتنظير إلى الفعل والتنفيذ.
“العالم شهد بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول سلسلة من الأحداث الخطيرة التي أثّرت في ميدان العلاقات الدولية، خاصة بشأن علاقتها بالتطرّف والتكفير وارتباطها بالإسلام والإرهاب الدولي”
وشهد العالم بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 “الإرهابية” التي حصلت في الولايات المتحدة سلسلة من الأحداث الخطيرة، أثّرت في ميدان العلاقات الدولية، خصوصاً لجهة علاقتها بالتطرّف والتكفير وارتباطها بالإسلام والإرهاب الدولي، وبالنبرة المرتفعة بخصوص استخدام القوة أو التهديد بها لحلّ النزاعات الدولية أو الداخلية، والسعي لإملاء الإرادة وفرض الهيمنة والتسيّد.
وانعكست تلك الأجواء العدائية على المجتمعات والبلدان في جانبها السياسي والفكري، وعلى المستويين الجماعي والفردي، وبأبعادها المختلفة، القانونية والحقوقية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والنفسية وغيرها.
ومن أهم تجلّيات تلك التطورات الدراماتيكية وقوع بلدين مسلمين (أفغانستان عام 2011 والعراق عام 2003) تحت الاحتلال، وتعرّض بلد ثالث للعدوان (لبنان 2006)، وصعود التيارات المتطرّفة والتكفيرية في عدد من البلدان.
وكان من نتائج ردود الفعل تلك انتشار ظاهرة الإرهاب والعنف في المنطقة، بدءًا من العراق حيث نشطت تنظيمات القاعدة وفروعها لاحقاً ومنها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولا سيّما بعد احتلال محافظة الموصل (شمال العراق) عام 2014، والتمدّد نحو محافظات أخرى في غرب العراق، إضافة إلى احتلال محافظة الرقة في سوريا واختيارها عاصمة لتنظيم داعش، وهو لا زال اليوم يهيمن على ثلث الأراضي السورية، إضافة إلى نحو ثلث الأراضي العراقية، على الرغم من تراجعه وهزائمه في الفترة الأخيرة.
وترافقت الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، ولا سيّما مؤخراً، مع استفحال ظاهرة العنف لدرجة مريعة، خاصة بعد موجة الربيع العربي التي ابتدأت في مطلع عام 2011، التي كان من أعراضها تفشي الفوضى وانفلات العنف وتشظّي الدولة الوطنية، بل تآكلها، كما هو في ليبيا واليمن، إضافة إلى محاولات التفتيت والتقسيم، كما هو في العراق وسوريا، وارتفع منسوب العنف والإرهاب ليشمل خريطة واسعة وتضاريس مختلفة وأنظمة متباينة.
باتت قضية الإرهاب الدولي مطروحة على طاولة التشريح والبحث في الأمم المتحدة التي أصدرت قرارات عديدة، بخصوص الإرهاب الدولي، وعلى الرغم من وجود نحو 12 اتفاقية وتصريحا دوليا حول الإرهاب قبل أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وعدّة قرارات دولية بعده، وكذلك عدّة قرارات قبل احتلال داعش الموصل وبعدها، فإن تعريف الإرهاب الدولي لا يزال غير متفق عليه.
لقد أصابت نيران الإرهاب الدولي بلداناً مختلفة وعواصم أوروبية عديدة، كان آخرها الهجوم الذي حصل في العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وقبله قتل صحفيون يعملون في صحيفة شارلي إيبدو، وهناك هجوم آخر في كاليفورنيا.
إن المساحة التي يغطيها الإرهاب تشمل قارات وبلدانا متنوعة من باكستان والهند وأفغانستان وتركيا، إلى العراق وسوريا ولبنان والأردن والمملكة العربية السعودية والكويت، وصولاً إلى السودان ومصر والمغرب وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا ومالي ونيجيريا، وحتى الشيشان وروسيا واليونان وأوكرانيا وإندونيسيا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها.
وعلى الرغم من ارتفاع هاجس الأمن، على حساب الكرامة أحياناً، واختلال معادلة الحقوق والأمن، فإن الإرهاب لم ينحسر، بل أخذ بالتصاعد بحكم انتشار الأفكار المتطرّفة والتكفيرية، وتستوي في ذلك البلدان المتقدمة والبلدان المتأخرة، لأن العولمة جعلت الإرهاب “معولماً”.
للتطرّف أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية والتربوية والدينية والطائفية والنفسية وغيرها، ولكنها جميعا ناجمة عن التعصّب، وكلّ متعصّب هو متطرف في حبّه أو كرهه، لا سيّما إزاء النظر للآخر، وعدم تقبّله الاختلاف، فكل اختلاف حسب وجهة نظر المتعصّب يضع الآخر في خانة الارتياب، وسيكون غريباً، وكل غريب أجنبي، وبالتالي مريب، بمعنى هو غير ما يكون عليه المتطرّف.
“التطرّف يمكن أن يكون دينياً أو طائفياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، ويمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً أو هندوسياً، ويمكن أن يكون علمانياً، حداثياً، أو سلفياً، فلا فرق في ذلك سوى بالمبرّرات التي يتعكّز عليها لإلغاء الآخر”
التطرّف يمكن أن يكون دينياً أو طائفياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو سياسياً، والتطرّف الديني يمكن أن يكون إسلامياً أو مسيحياً أو يهودياً أو هندوسياً، كما يمكن للتطرّف أن يكون علمانياً، حداثياً، أو سلفياً، فلا فرق في ذلك سوى بالمبرّرات التي يتعكّز عليها لإلغاء الآخر، بوصفه مخالفاً للدين أو خارجاً عليه أو منحرفاً عن العقيدة السياسية أو غير ذلك.
الإرهاب يتجاوز التطرّف، أي إنه ينتقل من الفكر إلى الفعل، وكل إرهاب هو عنف جسدي أو نفسي، مادي أو معنوي، ولكن ليس كل عنف إرهابا، خصوصاً إذا كان دفاعاً عن النفس واضطراراً من أجل الحق ومقاومة العدوان.
وكلّ إرهاب تطرّف، ولا يصبح الشخص إرهابياً إذا لم يكن متطرّفاً، ولكن ليس كلّ متطرّف إرهابيا، فالفعل تتم معالجته قانونياً وقضائياً وأمنياً، لأن ثمة عملا إجراميا تعاقب عليه القوانين، أما التطرفّ -لا سيّما في الفكر- فله معالجات أخرى مختلفة، وهنا يمكن قرع الحجة بالحجة ومحاججة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي، وإنْ كانت قضايا التطرّف عويصة ومتشعّبة وعميقة، وخصوصاً في المجتمعات المتخلّفة.
وإذا كان البشر يستندون إلى مرجعيات مختلفة دينية وسياسية وفكرية، فمن الطبيعي أن يختلفوا في ما بينهم، وتلك إحدى سمات الحياة، لأن الاختلاف من طبيعة الأشياء. والتطرّف يؤدي إلى الانغلاق والمغالاة والتشدّد، وقد يذهب أبعد من ذلك حين يمارس الفعل فيؤدي إلى الإرهاب، سواء على أساس عنصري استعلائي (النازية الألمانية)، والعنصرية الجنوب أفريقية للأقلية البيضاء ضد السود، والعنصرية الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب والآخرين، أو ديني أو مذهبي (ضد الأديان الأخرى ) بزعم التفوّق والأغلبيات وامتلاك الحقيقة.
وعكس ذلك الاعتدال والوسطية والمشترك الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان واللغات والسلالات المتنوعة، وذلك من طبيعة البشر والإنسان على مرّ العصور، حيث التنوّع والتعدّدية، والاختلاف، وهذه كلّها ينبغي الإقرار بها والتعامل معها كحقوق إنسانية، وهي النقيض لفكر التطرّف والتكفير.
التطرّف يعني في ما يعنيه ادعاء الأفضليات، “فالأنا أفضل من الأنت، والنحن أفضل من الأنتم”، وديني أفضل من الأديان الأخرى، وقومي فوق الأمم والقوميات الأخرى لدرجة الزعم بامتلاك الحقيقة، وهكذا.
ولعلّ جميع الحركات الشمولية قامت على التطرّف، لإلغاء الآخر والادعاء باحتكار الحقيقة، سواء كانت شيوعية أو قومية أو إسلامية أو يهودية أو مسيحية، كما أن جميع المنظمات الإرهابية في العالم كانت تقوم على التعصّب، من الناحية الفكرية، ومن الناحية العملية، وتمارس الإرهاب والعنف وسيلة لتحقيق أهدافها. ولا تقتصر الحركات المتطرفة وأفعالها الإرهابية على الإسلاميين وحدهم، فهناك حركات “علمانية” -أو غير دينية- مارست أعمالاً إرهابية تحت عناوين مختلفة.
لا يمكن القضاء على فكر التطرّف والتكفير وجذورهما، ما لم يتم القضاء على التعصّب والتطرّف وأسبابهما، ذلك إن الفكر المتطرّف والتكفيري لا يتم القضاء عليه بالعمل العسكري أو المسلح أو مواجهة العنف بالعنف والقوة بالقوة، وعنفان لا يولدان سلاماً، كما أن رذيلتين لا تنجبان فضيلة، وأن ظلمين لا ينتجان عدالة.
التطرّف والتكفير يمثلان فكراً، وهذا الفكر لا يمكن قتله أو مقاومته بالقوة أو بالعنف، ولا بدّ من العمل على تفكيكه وفضح معانيه وكشف أهدافه ووسائله، والوسيلة جزء من الغاية، بل إنهما مترابطان ولا غاية شريفة بدون وسيلة شريفة، وعلى حد تعبير المهاتما غاندي: الوسيلة والغاية مثل البذرة من الشجرة.
“الإرهابي لا يؤمن بالحوار ويبسط سلطانه على محيطه بالقوة، وبدلاً من الإقناع يلجأ إلى التفجير والمفخخات، ما دام تتلبسه فكرة امتلاك الحق والسعي للوصول إليه وإلى الحقيقة بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة أحياناً”
الأمر يحتاج إلى تقديم فكر نقيض، يعترف بالآخر ويقرّ بالتعددية والتنوّع، ويرتكز على منظومة قيم حقوقية وإنسانية تناهض التمييز وتنبذ ادعاء الأفضليات، وتؤمن بالشراكة والعدالة والمساواة وعدم التمييز بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو اللغة أو القومية أو الأصل الاجتماعي.
إن الفكر المتطرّف والتكفيري يعدّ كل خلاف معه محرّم ويجب إقصاؤه وإلغاؤه واستئصاله، في حين إن نقيض ذلك هو مبادئ التسامح والاعتراف بالآخر والحوار واللاّعنف. والإرهابي لا يؤمن بالحوار ويبسط سلطانه على محيطه بالقوة، وبدلاً من الإقناع يلجأ إلى التفجير والمفخخات خارج أي اعتبار إنساني، ما دام تتلبسه فكرة امتلاك الحق والسعي للوصول إليه وإلى الحقيقة بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة أحياناً، وقد تكون هذه الأخيرة بنظره مشروعة، ما دام يحاول “أدلجة” سلوكه وإعطاء نفسه مبرّرات قمع الآخر أو تصفيته، سواء كان ذلك بزعم الدخول إلى الجنّة أو إبادة الخصم الكافر أو القضاء على المروق والإلحاد، أو مصلحة الحزب والثورة أو تحرير فلسطين أو مصالح الكادحين، أو غير ذلك من محاولات إخضاع الآخر.
لا يمكن للتطرّف الذي يصبح عنفاً إرهابياً وفعلاً ارتكابياً ضد الإنسان إلا إذا تمكّن من التوغّل في العقول، وهذا غالباً يتم بعملية غسل أدمغة، حيث تعمى البصيرة وتتعطّل العقول والمشاعر الإنسانية، ليقوم المرتكب بفعلته سواء بتفجير نفسه أو تفجير عدوّه أو خصمه، أو السعي لإذلاله والقضاء عليه.
ولكن ما السبيل لقطع دابر الإرهاب؟ هل بالعنف أو بالقوة وحدهما؟ وإن كان آخر العلاج الكي كما يقال. ولكن التجارب أكدت أن المعالجة الأمنية غير كافية، لأنه الإرهاب سيتناسل ويتوالد إذا استمرت الظروف على ما عليه، ولا يمكن القضاء على الإرهاب وقطع نسله إلاّ بالفكر المعاكس والمضاد، وبالمزيد من احترام الحقوق والحرّيات، واعتماد مبادئ المواطنة المتساوية وتحقيق القدر الكافي من العدالة وتحسين ظروف العيش.
عبدالحسين شعبان
الجزيرة نت