في 22 كانون الأول/ديسمبر من الشهر الجاري، بدأت العمليات العسكرية لإنهاء سيطرة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” على مدينة الرمادي. ويشارك في هذه العمليات كل من قطاعات الجيش والأمن، والمصحوبة بفرقة “مكافحة الإرهاب” والشرطة المحلية لمحافظة الأنبار إضافة إلى قوات عشائرية محلية سُنية، كما يدعم هذه العمليات غطاء جوي من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. واللافت في هذه العمليات بأنها تأتي انسجامًا مع الرؤية الأمريكية والمتمثلة بإعطاء مليشيات الحشد الشعبي دور هامشي في معركة تحرير الرمادي. ويرجّح أن هذا الدور أسند إليه على سبيل الاسترضاء السياسي، ولتجنيب حكومة بغداد موقفا محرجا إزاء تلك التشكيلات الطائفية التي يحظى أغلب قادتها بنفوذ سياسي كبير.
ولأن هذا الدور الهامشي لا ينسجم مع تطلعات العسكرية لمليشيات الحشد الشعبي العسكرية فيما يتعلق بمستقبل العراق، شنّت حملات عبر منابرها الإعلامية، ضد ما اعتبرته فرضاً للإرادة الأميركية على السيادة العراقية. وقد هاجم بعض المعلقين السياسيين المؤيدين للحشد ما اسموه رضوخ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي للإملاءات الأميركية فيما أسموه استبعاد مليشيات الحشد الشعبي عن المشاركة في المعركة. ومن جهته قال المتحدثُ باسمِ الحشد الشعبي كريم نوري لقناة العالم الإيرانية الناطقة باللغة العربية ” العراقيون لا يريدونَ الطريقةَ الأميركية في التحرير، والحشدَ الشعبي هو مَنْ مَهّدَ لتحريرِ الرمادي”، مضيفاً أنّ “الحشد لا ينتظر ترخيصاً من أحد لحسمِ المعركة، محذراً من تفرد واشنطن بالملف الأمني لأنه سيضع العراق على حافةِ الهاوية”. كما أبدى امتعاضه من تهميش دور قواته في معركة الرمادي، مرجعا في حديث لوكالة “سبوتنيك الروسية” قبل أيام، بطء عملية اقتحام القوات الحكومية للمدينة إلى عدم مشاركة عناصر الحشد في عملية الاقتحام لكنّه عزا ما حقّقته القوات المسلّحة العراقية في الرمادي إلى “تطويق وتضييق الخناق على داعش من قبل الحشد الشعبي وتقطيع أوصاله قبل أشهر”.
ولم يُغفل أيضًا التأكيد على دور الولايات المتحدة وإصرارها على عدم مشاركة الحشد الشعبي في عملية اقتحام الرمادي. ووصف التحالف الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” بـ ” غير المؤثر”، مشيرا إلى أن “تدخل التحالف بقيادة الولايات المتحدة في معركة الأنبار جاء محاولة من الولايات المتحدة الأمريكية لإثبات جديتها في مكافحة داعش حتى ترتقي إلى الموقف الروسي الأكثر جدية في مواجهة الإرهاب”. وتأتي تصريحات كريم نوري هذا امتدادا لموقف أغلب القوى الشيعية في العراق، والمطالبة بإقحام روسيا في الحرب ضدّ داعش في العراق، على غرار ما يجري بسوريا”.
يدرك الناطق باسم مليشيات الحشد الشعبي بأن ما صرح به لوسائل الإعلام يجافي الحقيقة تمامًا، وأن مسألة مجابهة تنظيم الدولة في العراق ليس مسألة تنافسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإنما دورهم الثانوي في معركة تحرير الرمادي تدخل في الحسابات الاستراتيجية لدى الإدارة الأمريكية. وفي هذا السياق نتساءل عن الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية في اعطاء مليشيات الحشد الشعبي هذا الدور الهامشي في معركة الرمادي وإلى ماذا تهدف من ورائه؟
نظرًا لتعثر القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي في إنهاء سيطرة تنظيم الدولة على مدينة تكريت استعانت الحكومة العراقية بالإدارة الأمريكية لتقديم الإسناد الجوي لها، التي ترددت في بادئ الأمر في تقديمه، لأن أي انتصار في تكريت سيحسب لإيران؛ ذلك أن قرار بدء الحرب على تنظيم الدولة من محافظة صلاح الدين، بدلًا من أي منطقة أخرى، هو قرار إيراني. فقد أبدت الإدارة الأمريكية اعتراضًا على معركة تكريت، من جهة أنها ليست مهمة من الناحية الاستراتيجية، إذ هي محاصرة، وقريبة من نقاط التماس مع المناطق الشيعية، فضلًا عن أن القوات العراقية لم تُكمل استعداداتها لخوض المعركة، ولا سيما بناء القوات التي ستسيطر على الأرض في مرحلة ما بعد تحريرها. ولذلك، لم يشارك الأميركيون بدعم بري في تكريت، واكتفوا بتقديم دعم جوي مشروط للحكومة العراقية مفاده في حال تطهير تكريت من تنظيم الدولة يمنع على مليشيات الحشد الشعبي دخولها، حيث اضطرت تلك المليشيات الموافقة على ذلك نتيجة الحاجة الماسة للغطاء الجوي الأمريكي. ولكن ما حدث على أرض الواقع عكس ما تم الاتفاق عليه. إذ دخلت تلك المليشيات المدعومة إيرانيَا مدينة تكريت وقامت بانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان كقتل المواطنين العراقيين إذ اعتبرت كل عراقي سُني متواجد في تكريت على أنه من تنظيم الدولة، وقامت أيضا بسرقة ممتلكات المواطنين من منازل ومحلات تجارية وحرقهما بعد ذلك، ولم يكتفوا عند هذا المستوى من الإجرام، بل قاموا أيضا بمنع النازحين الذين فروا جراء سيطرة التنظيم عليها، من العودة إلى ديارهم. وهذا المنع يأتي ضمن خطة إيرانية تنفذها مليشيات الحشد الشعبي محاولة منها لتصفية الوجود السني في محافظات العراق الغربية يكون البدء في تكريت وتمر هذه التصفية عبر مدينة الرمادي وصولًا إلى محافظة الموصل؛ لإنشاء ممر آمن للنظام الإيراني يصلها بحليفه “الممانع”! في سوريا بشار الأسد والمقاوم “اللبناني”! حسن نصر الله.
فالطريقة التي تعاملت بها مليشيات الحشد الشعبي مع مدينة تكريت. أتاح للولايات المتحدة الأمريكية أن تعلن صراحة أن أحد الشروط الأساسية لأي معركة مقبلة ضد تنظيم الدولة في العراق بلاد الشام”داعش”في الأنبار أو الموصل، أو سواهما من المناطق التي يسيطر عليها في العراق، هو ألا تعود مليشيات الحشد الشعبي والمستشارون الإيرانيون إلى الواجهة، كما كان عليه الأمر في معركة تكريت. وليس ذلك لأن لم ينجحوا في إكمال المعركة من دون تدخل التحالف الدولي، بعد أن حاولوا أن يقدّموا استراتيجية نقيضة وبديلة من استراتيجية التحالف لمواجهة “تنظيم الدولة” لا تستند إلى قوات مقاتلة من داخل المجتمع المحلي، على نحو ما يخطط التحالف، وتستند إلى مليشيات مدربة، من مناطق أخرى وطائفة أخرى، وليس ذلك أيضَا لأن هؤلاء مارسوا انتهاكات بعد تحرير تكريت، وهي في الحقيقة انتهاكات معتادة مع أيّ جيش أو مليشيا في حالة اجتياح تجمعات مدنية ولاسيما في سياق وجود احتقان طائفي، بل لأن تعاظم دور الحشد الشعبي الذي هو في الحقيقة تعاظم للدور الإيراني سيؤدي إلى مزيد من الأضرار السياسية والنتائج السياسية السلبية. فالحشد وفق تركيبته الطائفية ودور إيران في دعمها وتسليحها وتدريب عناصرها، فقد عُدّ بمثابة جيش احتلال إيراني للعراق.
وهذا ما يتعارض مع السياسية الأمريكية في عراق ما بعد “تنظيم الدولة “وأرادت أن تتجنبه في المعركة الرمادي حينما استبعدت مليشيات الحشد الشعبي عن المشاركة الفعلية في معركة الرمادي، فقد وجدت الولايات المتحدة مصلحة كبرى في مساندة رفض العشائر السنية دخول الميليشيات الشيعية إلى مناطقها، فالخلاف الأمريكي الإيراني ليس مبني على التناقض في الاستراتيجيات العسكرية الواجب اتباعها ضد تنظيم الدولة وإنما الخلاف يمكن في الصراع بينهما على النفوذ وعلى شكل العراق المستقبلي؛ فبينما يدعم النظام الإيراني تحويل مليشيات الحشد الشعبي إلى بنية عسكرية مستقلة على غرار حزب الله في لبنان، واستخدامها في بسط نفوذها، تريد الولايات المتحدة الأمريكية استخدام الصراع لإعادة هيكلية القوات المسلحة العراقية والحد من النفوذ الإيراني داخلها. ويجادل الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، “مايكل نايتس” أن تهديد تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” قدّم فرصة كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية للعودة إلى العراق وإقامة شراكة استراتيجية مع الحكومة العراقية والقوات المسلحة العراقية التي قامت الولايات المتحدة بدور كبير في تشكيلها وهيكلتها وتدريبها وتسليحها في عراق ما بعد عام 2003م.
أما عن هدف الولايات المتحدة الامريكية من جعل دور الحشد الشعبي دور هامشي في معركة الرمادي وغيرها من المعارك القادمة ضد “تنظيم الدولة”، وفي المقابل مشاركة أبناء الرمادي من العشائر العراقية السنية فيها، لكي تكون هذه القوة بعد تحرير الرمادي نواة منظومة الحرس الوطني وفق ما جاء في وثيقة الاتفاق السياسي بين الكتل السياسية لبرنامج حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، إذ يشكل هذا الحرس من أبناء كل محافظة كقوة رديفة للجيش والشرطة له مهام محددة، وإليه يوكل الملف الأمني للمحافظة. فالولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن عراق اليوم لا يستطيع تشكيل قوات أمنية فعالة أو نوع حقيقي من حكم القانون دون التصدي للانقسامات الطائفية والإثنية التي تمزق البلاد. لن تستطيع أي حملة جوية أمريكية، أو مهمة تدريب ومساعدة، أو مجموعة مختلطة من المستشارين القتاليين، تحقيق نجاح دائم إذا ظل العراق منقسمًا إلى قوات عسكرية وشرطة يهيمن عليها الشيعة، ومليشيات شيعية، وقوات كردية منفصلة، وخليط ضعيف من القوات القبلية السنية ينحصر نشاطها في غرب العراق.
وهذه الفكرة التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية فرضها وخاصة على الساسة العراقيين الشيعة حلفاء إيران في العراق والذين يتخوفون من تطبيقها كي لا يتحول هذا الحرس لقوة سُنية قد يهدد الحكم الشيعي في بغداد ويمكن أن يستعمل من القوى الإقليمية، هي في الحقيقة فكرة أمريكية، مستنسخة من أنموذج الحرس الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حلًّا لمشكلة فقدان الثقة بين المكونات العراقية، ولاسيما في المسألة الأمنية.
فسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الحد من دور مليشيات الحشد الشعبي في معركة الرمادي يظهر بشكل جلي أنها نجحت –لغاية الآن -في رسم حدود فاصلة لتحرّك الميليشيات الشيعية ضمن المعركة ضدّ تنظيم الدولة، وأن محافظتي الأنبار ونينوى ضمن المناطق التي سيحدّد دور الحشد فيها بدقّة بحيث يكون دورها هامشيا إسناديا لا قياديا مثلما كانت عليه الحال في ديالى وصلاح الدين. وستشكل استعادة الرمادي حدثا مهما في سير الحرب ضدّ داعش بالعراق، على اعتبار ذلك خطوة كبيرة نحو استعادة محافظة الأنبار التي تشكّل المدينة مركزها وتعتبر إلى جانب مدينة الفلّوجة نقطة ارتكاز كبيرة للتنظيم. ومن هذا المنطلق فإن اكتفاء ميليشيات الحشد الشعبي بدور هامشي في معركة الأنبار يقلل من مساهمتها في الحرب على التنظيم ككل.
نخلص بالقول، أن التحدي الحقيقي في العراق ليس طرد تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” من محافظتي الأنبار ونينوى، بل مساعدة العراق على تحقيق نوع من الأمن الأوسع نطاقًا والاستقرار السياسي والاقتصادي. من المؤكد أن طرد “تنظيم الدولة” من المناطق السنّية في غرب العراق ضرورة حيوية، لكن مجرد هزيمته لن يحدث فرقًا، إذا لم يكن ذلك جزءًا من جهد أوسع للتوصل إلى علاقة سياسية واقتصادية مستقرة بين السُنة والشيعة والعرب والأكراد، وتوفير الأمن لهم جميعًا، وإيجاد بنية من الحوكمة يشعر العراقيون جميعًا أنها تخدم اهتماماتهم الأساسية، ووضع العراق على سكة التعافي الاقتصادي الأوسع نطاقًا، ثم السير في اتجاه التنمية الشاملة.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية