لا أحد في الشرق الأوسط يسلم بفشل أو خسارة أو سوء تقدير فالكل بارع ومنتصر ولكل ترجمته الخاصة للنصر، لكن الوقائع هي الميزان المباشر، والوقت هو الحكم في نهاية المطاف. فلا الهجوم الإيراني على إسرائيل مجرد ممارسة لحق الرد على قصف إسرائيلي القنصلية في دمشق، التي هي أرض إيرانية، وقتل مجموعة من القادة والكوادر في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري. ولا هو، في حد ذاته، محطة على الطريق إلى شرق أوسط جديد، بحسب المبالغات المألوفة.
هو، بالتأكيد، نقلة استراتيجية أوحت طهران نفسها أنها عبور من مرحلة “الصبر الاستراتيجي” إلى مرحلة “الردع”. والرد عليه كان نقلة استراتيجية عبر التركيز على ظهور “منظومة دفاعية إقليمية” والإشارة إلى نوع من حلف إقليمي-دولي، ذلك أن إيران “قطعت نهر الروبيكون” كما كان يقال أيام الرومان وصارت عبارة تستخدم كرمز للقرار الذي لا رجعة بعده، وتخلت عن الحذر حيال المواجهة المباشرة مع إسرائيل والاكتفاء بالمواجهة عبر الوكلاء.
ونتنياهو لجأ إلى استفزاز جمهورية الملالي والمبالغة في تحديها لترد من أرضها على الدولة العبرية على أمل أن يؤدي ذلك إلى حرب واسعة تتورط فيها أميركا وترتاح إسرائيل، لكن إدارة بايدن سكبت ماء بارداً على رأسه الحامي.
ومع ذلك فإنه حقق ثلاثة مكاسب مقابل انكشاف خطر لحال إسرائيل. أولها استعادة التعاطف الغربي والدولي مع إسرائيل بعد خسارة الدعم بسبب توحشها في حرب غزة. وثانيها مسارعة أميركا وبريطانيا وفرنسا إلى المشاركة في صد الهجوم الإيراني، بالتالي رسم “خط أحمر” في الفضاء أمام أي قوة تفكر في إزالة إسرائيل. وثالثها إثبات الاستعداد لمواجهة موجة واسعة من الصواريخ والمسيرات دفعة واحدة. والثمن باهظ انكشاف حاجة إسرائيل إلى من يحميها.
أما إيران، فإنها قطعت حاجز الحذر من ضرب إسرائيل مباشرة. كما قامت بتجربة صواريخ ومسيرات في الميدان. والثمن المقابل نهاية الخوف الإسرائيلي من هجوم صاروخي، ونهاية المبالغة في القدرة والحديث عن إزالة إسرائيل خلال دقائق عندما يأمر المرشد الأعلى.
لكن الشرق الأوسط صار على حافة حرب واسعة لا أحد يريدها، ولا من السهل وقف الانزلاق إليها مع تكرار الرد والرد على الرد إلى ما لا نهاية. واللاعبان الخطران فيها هما إسرائيل وإيران. طهران فعلت شيئاً لا سابق له هو تأسيس ميليشيات أيديولوجية مرتبطة بالحرس الثوري مهمتها حماية الجمهورية والعمل لنجاح مشروعها الإقليمي في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وبلدان أخرى، وعنوانها “محور المقاومة” ضد إسرائيل، ثم جاء الانخراط المباشر في الحرب.
ومن الصعب الأخذ بالخطاب الإيراني القائل إن عملية الصواريخ والمسيرات مجرد دفاع عن النفس، ولا شيء آخر على “الأجندة”. فلا نهاية في لعبة خطرة مثل هذه مع كيان صهيوني خطر يحكمه عتاة المتطرفين.
والأهم هو أن عصر الصواريخ والمسيرات أحدث تبدلاً جذرياً في الموازين الاستراتيجية والحسابات. فنحن اليوم في حروب لا أحد يتحرك فيها من مكانه، مجرد كبس أزرار. وهذا ما سمح حتى لميليشيات الحوثيين في اليمن بتعطيل الملاحة الدولية في البحر الأحمر على رغم وجود الأساطيل الأميركية والأوروبية، وما جعل ميليشيات عراقية تضرب قواعد أميركية.
وهذا العصر هو الذي استثمرت فيه إيران كثيراً من المال والجهد لبناء ترسانة صواريخ ومسيرات يصل مدى بعضها إلى ألفي كيلومتر. وقبله كانت إسرائيل المولودة في عصر سابق تهيمن على المنطقة في الحروب. أما اليوم، فإنها تواجه لاعباً جديداً في عصر جديد، بحيث صارت في حاجة إلى حماية أميركا. وهي كانت في الماضي ترفض عقد معاهدة دفاعية مع أميركا لئلا تفقد حرية الحركة وإعلان الحروب ساعة تريد.
والأحداث متطورة وسريعة. ومن الخطأ التوقف عند القراءة الأولى في الهجوم الإيراني رداً على القصف الإسرائيلي. ولا بد من قراءات متعددة في قرارات سريعة.