قد يكون من غير المبالغ فيه القول إن الكثير من دول العالم حبست أنفاسها عندما أعلنت إسرائيل في وقتٍ متأخر من مساء السبت الفائت بالتوقيت المحلي، أن الغارات الانتقامية الإيرانية المتوقعة منذ فترةٍ طويلة قد بدأت، مع توجيه مئات المسيرات والصواريخ إليها.
كان الهجوم غير مسبوق، لا بحجمه وحسب، بل لأنه كان لافتاً أيضاً أنه جرى مباشرةً وإلى حد كبير من إيران. وبالتالي، فقد شكل مرحلةً جديدةً شديدة الخطورة، من المحتمل أن تتصاعد لتصبح صراعاً مهدداً للمنطقة، بين دولةٍ ودولة، بدلاً من أن يدور عبر وكلاء. وكانت كافة الأطراف المعنية ــ إيران، وإسرائيل، والدول المجاورة، والدول الأوروبية، وبخاصة الولايات المتحدة ــ تدرك تمام الإدراك العواقب المحتملة، ولم تترك أي مجال للأوهام.
ونتيجةً لقدرات الاستطلاع والاتصالات الحديثة، نُشرت المعلومات الخاصة بالهجوم على نطاق واسع، ما أتاح الوقت – على نحو إيجابي – لأولئك الموجودين في المناطق المستهدفة المحتملة للبحث عن مأوى. إلا أن ذلك يعني في المقابل أن عدداً أكبر من الناس في المنطقة وخارجها، يمكن أن يشهدوا ويشعروا بالخوف بشأن الوضع الذي يتكشف.
ولحسن الحظ، بالنسبة إلى أولئك الذين تابعوا الأحداث طوال الليل أو استيقظوا على الأخبار، فقد تم تجنب كارثة مخيفة. ونجحت دفاعات إسرائيل – بدعمٍ من مساندة جوية أميركية وفرنسية وبريطانية – في تحييد القوة النارية كلها التي أطلقتها إيران. وبحسب إسرائيل، اقتصرت الأضرار على قاعدة جوية في صحراء النقب، ما أدى إلى إصابة طفل. ويمثل ذلك في أقل تقدير، نجاحاً كبيراً لجهود الدفاع الإسرائيلية، ومن المفترض أن يساعد على نحو متفائل في إحباط أي تصعيدٍ إقليمي يُخشى حدوثه كثيراً، أو على الأقل إرجائه.
لكن عند هذه المرحلة يتبدد مقدارٌ كبيرٌ من اليقين، ما يفتح المجال أمام عددٍ كبير من التساؤلات التي يُجرى بلا شك التداول فيها في اجتماعات الطوارئ التي تعقدها الحكومات ودول التحالف في مختلف أنحاء العالم اليوم.
أول هذه التساؤلات هو: هل الاعتداء الإيراني يعني انتهاء مرحلة أم بداية مرحلةٍ جديدة؟ في حين أن الكثير من التقارير تصور ذلك على أنه “تصعيدٌ” كبيرٌ للصراع في غزة، إلا أنني أرى من وجهة نظري أن هذا الوصف ليس دقيقاً تماماً. فالتصعيد الأبرز كان من خلال الغارة الإسرائيلية المفترضة التي لم يتم تبنيها، على مبنى للقنصلية الإيرانية في دمشق في مطلع نيسان (أبريل)، الذي أدى إلى مقتل 13 شخصاً، منهم إثنان من كبار جنرالات “الحرس الثوري الإيراني”.
كانت إيران على علم مسبق أن جزءاً كبيراً من مسيراتها وصواريخها لن تصل بنجاح إلى أهدافها المقصودة
لقد حُجبت أهمية هذ الحدث في كثير من وسائل الإعلام الغربية، بعد مقتل سبعةٍ من عمال الإغاثة في غزة في اليوم نفسه. ومع ذلك، فإن الهجوم على المباني الدبلوماسية الإيرانية في العاصمة السورية يرقى إلى مستوى اعتداء على أراضٍ سيادية، وهو استفزاز لا يمكن للقيادات الإيرانية أن تتجاهله وأن تسمح لمثل هذا العمل بأن يمر من دون رد.
والآن أكدت إيران من خلال بعثتها لدى الأمم المتحدة، أنها تعتبر الغارات التي شنتها في نهاية الأسبوع قد “حسمت” الأمر – في إشارة إلى أن طهران تعتبر هجومها نهايةً وليس بداية لمزيدٍ من الاعتداءات. وعلى نحو مماثل، أصدرت إيران تحذيراً لإسرائيل ألمحت فيه إلى أنها سترد بـ “انتقام أشد قسوة” إذا ما ارتكبت الحكومة الإسرائيلية “خطأ آخر”. من هنا يبرز السؤال المحوري: هل ستنظر إسرائيل إلى الأمر بنفس الطريقة.
أما السؤال الثاني الذي يطرح نفسه فيتعلق بنوايا إيران. فهل كان هدفها شن ضرباتٍ قاتلة على إسرائيل، أم أن الغارات كانت محسوبةً بدقة لاستهداف مناطق هي أقل كثافةٍ سكانية، وإحداث أضرار محدودة؟ بعبارةٍ أخرى، هل كانت تلك الإجراءات رمزية في المقام الأول – وتهدف إلى تبديد أي تصور للضعف على الصعيدين المحلي والدولي، وردع الهجمات الإسرائيلية المستقبلية من دون التسبب بتصعيد التوترات بشكلٍ أكبر؟ أم أن طهران كانت تنوي فعلاً إحداث أضرارٍ كبيرة لكنها فشلت في القيام بذلك؟
تشير تصريحات القادة الإيرانيين التي صدرت منذ هجمات “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إلى رغبة في تجنب التورط المباشر في الصراع أو تصعيده. وينسحب ذلك على وكيل طهران في جنوب لبنان “حزب الله”. ومع ذلك، كانت هناك رواياتٌ متضاربة في شأن النوايا الحقيقية لإيران.
فمن جهة برزت تقارير إسرائيلية متأخرة، زعمت أن إيران قامت بتمويل هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) التي شنتها حركة “حماس” وأن طهران كانت على علمٍ مسبق بها (وهو ادعاء أشكك فيه شخصياً). وفي المقابل، كانت هناك تقارير مستمرة (أرى أنها أكثر صدقية) عن اتصالاتٍ حديثة أجريت بين مسؤولين إيرانيين وأميركيين، وهو أمر نادر الحدوث منذ “الثورة الإيرانية” في عام 1979، تهدف إلى وضع قيودٍ على رد إيران الانتقامي على الهجوم على مباني قنصليتها في دمشق، ومنع الرد المضاد من جانب إسرائيل. وبالنظر إلى هذه العوامل، يبدو من المعقول الافتراض أن إيران توقعت أن جزءاً كبيراً من مسيراتها وصواريخها لن تصل بنجاح إلى أهدافها المقصودة.
وهنا يأتي السؤال الثالث: كيف ستتعامل إسرائيل – المتأثرة بلا أدنى شك بالولايات المتحدة – مع الهجوم الإيراني؟ فهل ستعتبره فرصةً لشن المزيد من الهجمات على المصالح الإيرانية أو حتى على إيران نفسها؟ هناك تكهنات بأن إسرائيل استهدفت عمداً القنصلية الإيرانية في دمشق لاستجرار الرد، وربما توفير ذريعة لتبرير عمليات إسرائيلية أكثر اتساعاً وتدميراً. ومع ذلك، يبقى هذا سؤالاً مفتوحاً من دون إجابة. لكن الأمر الذي لا لُبس فيه هو أن إسرائيل تعتبر أن إيران تشكل تهديداً أكبر بكثير على وجودها واستمرارها من “حماس”، على رغم الصعوبات والتحديات المستمرة التي تواجهها في سعيها إلى اجتثاثها من قطاع غزة.
إن ما حدث في نهاية هذا الأسبوع يثير عدداً من التساؤلات الأخرى التي تتجاوز حدود العلاقات الثنائية بين إسرائيل وإيران. أحدها، ضمن أي نطاق يمكن للغارات الإيرانية الأخيرة أن تعيد تشكيل الصراع في غزة والمناخ الدولي ولأي مدى. لقد أدى سلوك إسرائيل في هذه الحرب إلى تهميش جزءٍ كبير من الدعم الخارجي (المعنوي) لها، بما فيه على المستوى الشعبي حتى في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلى درجة اضطُرت فيها الدولتان إلى تعديل مواقفهما العلنية، في ما يتعلق بوقف النار، على سبيل المثال.
إلا أنهما واصلتا إمداد إسرائيل بالأسلحة، ويبدو أن قوة نيران التحالف ضد الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية كانت حاسمة. فهل تمت إعادة تشكيل التحالف المؤيد لإسرائيل؟ لكن هل كان تلاشى حقاً في الأساس؟ قد تكون مخرجات الجلسة الطارئة التي دعا إليها “مجلس الأمن” التابع للأمم المتحدة، بناءً على طلب إسرائيل، قادرة على تقديم أدلة.
ثانياً، وليس بعيداً من جوهر الموضوع: حاولت إيران إثارة مسألة انتهاك أراضيها الدبلوماسية في دمشق أمام الأمم المتحدة، لكن من دون جدوى. ومن الجدير بالذكر أنه يبدو أن هناك دعماً شعبياً محدوداً لطهران من دولٍ مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ومع ذلك، فإن الحصانة الدبلوماسية تشكل مبدأً أساسياً من مبادئ القواعد الدولية، كما أن الامتناع عن إدانة مثل هذه الانتهاكات عندما تقع في بعض البلدان، من دون غيرها، لا يقوض هذا المبدأ فحسب، بل يشير إلى ازدواجية المعايير (كما حدث مع تزويد الولايات المتحدة أوكرانيا بقنابل عنقودية، أو أثناء دفاعها القوي عن حق الأوكرانيين في تقرير مصيرهم، ولكن ليس الفلسطينيين).
وهذا يقودنا إلى دور “سلاح الجو الملكي” البريطاني في الدفاع الجوي عن إسرائيل. ويبدو أن مبررات هذا الدور تنبع من مهمة عمرها 10 أعوام تسمى “عملية شادر” Operation Shader، التي تم إنشاؤها لمحاربة تنظيم “داعش” والجماعات “الجهادية” الأخرى في المنطقة. فهل كان هناك – أو كان ينبغي أن يكون هناك – أي تدقيق برلماني لاستخدام القوات المسلحة البريطانية (التي تتعرض لضغوط شديدة) بهذه الصفة الجديدة؟ هل هناك خطرٌ محتمل على سلامة مواطني المملكة المتحدة سواء في الداخل أو الخارج، بسبب هذه المشاركة؟ هل ينبغي أن تكون هناك شفافية أكبر في ما يتعلق بمثل هذه الاشتباكات العسكرية؟
أخيراً لا بد من إضافة ملاحظة تتعلق بأوكرانيا. فإنني في الواقع أشعر بفضول لمعرفة رد فعل الرئيس فولوديمير زيلينسكي وفريقه، والأوكرانيين بشكلٍ عام، حيال المشاركة المباشرة والرفيعة المستوى للولايات المتحدة والمملكة المتحدة في هذا الدور الشرق أوسطي ليلة السبت – عندما كانت بعض مدنهم تتعرض للقصف من جانب القوات الجوية الروسية.
على أقل تقدير، فإن هذا الوضع ينبغي أن يؤكد حقيقة أنه على رغم الخطابات الداعمة لقادة مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون وآخرين، فإن الأمر عندما يتعلق بأولويات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فإن الدفاع عن أوكرانيا غالباً ما يأخذ مقعداً خلفياً بالنسبة لإسرائيل. علاوة على ذلك، وبينما قد تكون الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على استعداد لمواجهة إيران الضعيفة، فإن الشيء ذاته لا يمكن أن يقال عن الدخول في صراع مباشر مع روسيا.