يأتي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة تزامناً مع ما يجري في محاولة مصرية جديدة للتوصل إلى هدنة جديدة ولنقل رسالة إلى الأطراف العربية وإسرائيل بجدوى التحرك الأميركي الهادف للتوصل إلى حالة تهدئة جديدة، بعد أشهر من المواجهات بين إسرائيل وحركة “حماس”، مما يشير إلى أن الإدارة الأميركية لا تزال تسعى إلى المشاركة في ما يجري، والتنسيق مع دول المنطقة.
أهداف محددة
وتسعى الإدارة الأميركية إلى تأكيد حضورها السياسي والدبلوماسي في تفاصيل ما يجري على المسار السياسي والسعي إلى التوصل لتهدئة جديدة والقفز على إشكالات ما يجري، ورفض كل طرف تقديم تنازلات، بخاصة أن تل أبيب ما زالت لديها خطوات لاستكمال أهداف العملية العسكرية بالكامل، وليس فقط دخول رفح، وهو ما برز في حالة التباين التي وصلت إليها المؤسسة العسكرية ما بين مجلس الحرب والحكومة المصغرة التي ما زالت على موقفها بضرورة العمل على الهدف العسكري على رغم ما يجري، والإعلان عن تأييد مشوب بحذر حقيقي من السيناريو التالي.
فالإفراج عن بعض المحتجزين أمر مهم ولكن الأهم استكمال تنفيذ المهام الكبرى في قطاع غزة قبل التوصل إلى أي اتفاق في شأن الهدنة، بخاصة مع تنامي الأنباء عن حالة التسرب من وحدات الجيش سواء على مستوى الاحتياط أو الإلزامي، والتي بدأت بفرقة المظليين ووحدات نوعية أخرى، مما يؤكد أن الأمور لا تمضي بصورة مستقرة، أو للعمل على تنفيذ العملية العسكرية إلى حدودها في ظل إعلانات متكررة للقادة العسكريين من أن هناك استعدادات كبيرة تمت، وأن الأمر مرتبط بالقرار السياسي.
مسارات للتحرك
في ظل هذه الأوضاع تتحرك الإدارة الأميركية للتعامل بصورة مباشرة من خلال تقديم قائمة تحفيزية للجانبين وللتطلع إلى حل كلي، وليس فقط التهدئة، ومن خلال مقاربة التطبيع بين السعودية بثقلها العربي والدولي، وإقناع إسرائيل بالعمل معاً والتوصل إلى حل وإحداث نقلة نوعية في مجمل ما يجري، وهو ما نقل عن الخارجية الأميركية مسعاها إلى إبرام اتفاق سعودي – إسرائيلي سيغير من معطيات المعادلة الراهنة ويدفع الإقليم إلى مرحلة جديدة من التطورات، وينهي حالة المواجهة، ويؤكد أن الولايات المتحدة قادرة على فعل هذا التطور على رغم تعقيدات الموقف الراهن، وتأتي زيارة بلينكن المتوقعة ضمن الجهود التي تقوم بها إدارة الرئيس جو بايدن من أجل التمهيد لصفقة كبيرة محتملة تطبع من خلالها العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وعلى رغم أن كثيراً من المسؤولين الأميركيين يصفون الأمر بالهدف بعيد المنال مع تصميم السعودية الجازم بأنه لن يتم الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود عام 1967 ووقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وانسحاب الاحتلال منها، إضافة إلى أن السعودية تشكل ورقة ضغط على الجانب الإسرائيلي، خصوصاً أن المملكة هي التي دعمت من قبل المبادرة العربية للسلام وما زالت تدعم طرحها.
وسيظل تصميم الحكومة الإسرائيلية على إقصاء حركة “حماس” قائماً، التي بدأت أخيراً في طرح مقاربة سياسية آملة في أن تكون طرفاً مقبولاً، وأن تندمج في إطار الدولة الفلسطينية المرتقبة، وأن تدخل عناصرها القوات الوطنية والفلسطينية وغيرها من نقاط طرحت على لسان حركة “حماس”، لكنها تصب في إطار واحد عدم المساس بسلاح الحركة، أو نزع سلاحها، وأن تكون جزءاً من كل، وفي إطار ما هو قائم من فرضيات.
اتجاهات متعددة
وتتعامل الإدارة الأميركية انطلاقاً من متغيرات قد تطرح في المدى القصير ومن خلال الانتقال من حال الهدنة إلى خطوات مكملة أخرى مهمة وهيكلية في إطار الصفقة الواحدة، أو حزمة كاملة، ولكن يعوق ما تخطط له واشنطن، ويسعى وزير الخارجية بلينكن إلى التوصل إليه، قصر المدة التي تعمل عليها الإدارة الأميركية في ظل انتخابات مقبلة، وعدم وجود مرجعيات حقيقية لما يمكن أن يتم، وعدم وجود مقاربة موثقة موضوعة للعمل، الأمر الذي يشير إلى أن التحرك الأميركي متلق أكثر منه مبادر، مما يؤكد أن واشنطن عاجزة عن تحريك المشهد في ظل تطورات محددة تعمل عليها، مع تأكيد تناقض الإدارة الأميركية التي تتحدث منذ بداية الحرب عن ضرورة وقف إطلاق النار وحل الدولتين، بينما الممارسات على الأرض عكس ذلك، فتستخدم حق النقض باستمرار داخل مجلس الأمن.
وعلى رغم ذلك تحاول الإدارة الأميركية أن تنقل رسالة من كونها طرفاً رئيساً وموجهاً إلى طرف مشارك، بدليل استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل في إتمام الترتيبات الأمنية والاستراتيجية من خطوة ضخ السلاح إلى إسرائيل عبر صفقات متتالية وقعها وزير الخارجية الأميركي، بنفسه، تحت بند الطوارئ للالتفاف حول ما يجري في دوائر الكونغرس، على رغم أنه مرر أخيراً مساعدات عسكرية بقيمة 61 مليار دولار، مما يؤكد أن الولايات المتحدة تعتمد أكثر من مسار مع التركيز على ثوابت التعامل، وهو ما يجري في التوقيت الراهن بدليل إتمام العمل في الرصيف البحري في غزة وتطوير استخدامه لكل الأغراض المتوقعة بما في ذلك احتمالات استخدامها لأي هجرة طوعية، وليست جبرية، مما يؤكد الحضور الأميركي الكامل في ما يجري من ترتيبات أمنية وسياسية واستراتيجية.
دوائر متشابكة
وتتحرك الخارجية الأميركية انطلاقاً من فرضيات رئيسة داعمة للجانب الإسرائيلي، والاستثمار في إطار علاقاتها بالأطراف الأخرى الشريكة، التي ترى الإدارة الأميركية أنها قادرة على إتمام ما يمكن أن يتم، بخاصة أن إتمام المرحلة الأولى للهدنة قد يؤدي إلى وقف ولو موقت لإطلاق النار، وإعادة الأجواء مرة أخرى لوضع آخر، وهو ما سيسمح للأطراف المعنية بالتحرك سواء مصر أو الأردن، مع العمل على إعادة تهيئة السلطة الفلسطينية، وإكسابها مزيداً من الحضور والوجود للعمل في ظل الوضع الجديد الذي يمكن أن تقبله إسرائيل وتتوافق على المضي فيه .
يتحرك إذاً بلينكن في جولته الراهنة في دوائر محددة ومنضبطة، وفي إطار من الخيارات المتشابكة بالفعل، التي تضع التصور الأميركي الراهن في التعامل في أطر محددة أهمها الانتقال من حالة إسرائيل – “حماس” إلى حالة أشمل تضم دول الإقليم وإسرائيل، من خلال مقاربة أكبر تضم الحل الإقليمي والتطبيع بين السعودية وتل أبيب أولوية مهمة، في إطار تأكيد فكرة العمل معاً، بخاصة أن واشنطن تريد أن تنقل رسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنها تريد تعويم دوره، وعدم الاستمرار في نهج عدائي نتيجة التباينات في المواقف والتوجهات، مع التأكيد أن المصالح في هذا الإطار واحدة وتعمل في سياق متصل من الحسابات الأميركية – الإسرائيلية المشتركة، التي تؤكد أن الإدارة الراهنة لا تزال مستمرة في دعم الموقف الإسرائيلي بصرف النظر عن الانفتاح الأميركي على دوائر المعارضة الإسرائيلية، على رغم إدراك واشنطن أن أي تغيير متوقع في الداخل الإسرائيلي لن يأتي بأي استقرار.
ومن ثم فإن بلينكن سيعمل على نقل رسالة للجانب الإسرائيلي بأن العمل مع واشنطن مستمر ليس في إطار الدعم المفتوح، وإنما في ما هو قادم من ترتيبات قد يتم الاتفاق في شأنها، وتتضمن تل أبيب في المقام الأول سواء على مستوى المصالح أو الأهداف التي تعمل عليها في المديين القصير والمتوسط الأجل.
الخلاصات الأخيرة
يمكن التأكيد أن جولة وزير الخارجية الأميركي ليس فقط تسجيل حضور أو التجاوب مع ما يطرح، فتفكير واشنطن في حال التوصل إلى هدنة، ولو موقتة، استثمار ما يجري في الانتخابات المقبلة، ودعم حملة بايدن في هذا التوقيت وفي ظل حالة الاحتجاجات الكبرى لدى الجمهور الأميركي الذي يتابع ما يجري ليس فقط في الجامعات الأميركية والأوروبية، وإنما أيضاً في مستوى الصدقية الأميركية الراهنة ومسعى دول أخرى إلى الدخول على خط ما يجري، بدليل استقبال الصين حواراً بين حركتي “فتح” و”حماس” لإتمام المصالحة الفلسطينية، ومراقبة روسيا ما يجري في ظل اتصالاتها بحركة “حماس” من جانب، وممثلي السلطة الفلسطينية من جانب آخر، مما يؤكد أن التطورات الفلسطينية – الإسرائيلية تحظى بدعم ومتابعة من أطراف كثيرة، مما يمس الحضور الأميركي ويتطلب سرعة التعامل والانخراط في إدارة المشهد أو في الأقل تحريكه وفقاً لمقاربة محددة.