أعطت المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل صورًا من الأجراءات الميدانية التي رافقت العمليات العسكرية والضربات الجوية عبر إستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة التي شكلت انعطافة هامة في سياق الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وأتت بمعايير أمنية وعسكرية فرضتها ظروف المواجهة وشكلت أبعاد مستقبلية لطبيعة التوازنات السياسية والحفاظ على أبجديات قواعد الاشتباك والردع المقابل والاكتفاء بحدود العمليات العسكرية التي لم تشكل تأثيرًا كبيرًا على مجمل الصراعات والتراكمات في المنطقة العربية، وإنما ساهمت في تعزيز الرؤية القائمة بالتمسك بمجمل المصالح والمنافع الدولية والإقليمية التي تهدف الى عدم توسيع دائرة أي محاولة للاشتباك أو الوصول إلى نهايات تحدد آفاق مستقبلية للتعامل مع كل حدث وصراع ينشأ نتيجة أي خلافات سياسية صراعات عسكرية أساسها ليس الخلاف الجوهري المبدئي الذي يدعيه النظام الإيراني في حديثه عن خلافه مع الكيان الإسرائيلي وإنما مجموع المكاسب والمنافع التي حصل عليها خلال الأشهر الماضية وتحديدًا بعد أحداث السابع من تشرين الأول 2023 وطبيعة الأحداث والمواجهات العسكرية التي اجتاحت الأراضي الفلسطينية من قبل القوات الإسرائيلية، وحرص إيران على عدم التفريط بها والتمسك بجميع خيوط المواجهة التي اتفقت مع رأي الولايات المتحدة الأمريكية في عدم توسيع دائرتها والاكتفاء بما يحصل في قطاع غزة وعدم الانجرار إلى فتح مجالات وجبهات أخرى مع إسرائيل.
تخشى الإدارة الأمريكية توسيع المواجهة العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وتسعى للتركيز والإهتمام بالحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا التي تعتبرها أولوية استراتيجية لها مع خشية إدارة الرئيس جو بايدن من تداعيات أي تطورات ممكن حدوثها ميدانيًا في الوطن العربي قد تودي الي حرب إقتصادية تؤثر على طبيعة الانتخابات الأمريكية القادمة في تشرين الثاني 2024.
كما أن إيران لا ترغب بأي مواجهة عسكرية وتوسيع نطاق الصراع مع إسرائيل نظرًا لأزمتها الإقتصادية والإجتماعية وخشية من تعقيد موقفها الدولي والإقليمي بعدما لمست الدعم الدولي الذي حظيت به إسرائيل في الهجوم الذي قامت به ليلة الثالث عشر من نيسان 2024، وبالتالي فهي تبحث عن موجبات استمرار نظامها السياسي وتنفيذ مشروعها التوسعي سياستها في التمدد والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
أكد هذا التوجه السياسي القيادة الإيرانية باشارتها إلى أن تصاعد الصراع الإقليمي المسلح لا يرتبط بالأحداث القائمة في غزة والأراضي الفلسطينية ولا الهجمات التي تقوم بها القوات الإسرائيلية مستهدفة حياة الأهالي الأبرياء وتحطيم البنية التحتية من المباني والمنشآت والمستشفيات ودور العبادة وأنما يتعلق بالرد الإيراني على الاعتداء الاخير الذي قامت به إسرائيل على مقر القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق والتي شكلت اعتداء على السيادة الإيرانية.
سعى النظام الإيراني إلى تحقيق هدفين رئيسين من الهجوم الجوي الذي وجّه لإسرائيل، اولهما سياسي تمثل في محاولته تغيير معادلة الصراع القائمة ووقف العمليات العسكرية ضد قياداته الأمنية والعسكرية ومقراتها داخل العمق السوري والحفاظ على أهدافه ومصالحه في الميدان السوري، والثاني عسكري أراد منه تعريف الحكومة الإسرائيلية والآخرين بقدرة إيران في الوصول للعمق الإسرائيلي وبمقدورها القيام بأي عمليات أخرى اذا ما تكرر الاعتداء عليها.
ثم جاء الرد الإسرائيلي ضعيفًا على الهجوم الإيراني ولم تعترف الجهات العسكرية الإسرائيلية بالهجوم على منطقة اصفهان في العشرين من نيسان 2024، وهذا يعني في المفهوم الأمني والسياسي العسكري ( بعدم الرد) في حين أن إيران كان ردها مباشرًا وبشكل علني في حين جاء الرد الإسرائيلي بصورة غير رسمية، وهو ما يعني حرص الجانبين على تمسكهما بسياقات قواعد الاشتباك أو محاولة العودة لحروب الظل بينهما.
ومعروف أن وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير قد وصف هجوم اصفهان ( بالضعف والإهانة)، وأدركت إسرائيل أن الهدف الرئيسي لإيران هو تحقيق توازن عسكري بردها وإظهار قوتها الصاروخية وامكانياتها الجوية في استخدام الطائرات المسيرة ولكنها بنفس الوقت تسعى الى تجنب التصعيد نحو حرب إقليمية واسعة النطاق، ولكن مالم تتوقعه بل تدركه إيران أن عمليتها العسكرية قد منحت الحكومة الإسرائيلية دعمًا أوربيًا تصدر المشهد الميداني بالدعم والمساندة الإضافية وكأن الصراع لم يعد بين محصور في قطاع غزة وإسرائيل، بل أصبح بين إسرائيل وإيران، وهو ما أزال التردد الذي كان ينتاب بعض الحكومات الأوربية في دعم إسرائيل بشكل علني، بسبب إجراءاتها وأساليبها العسكرية في الهدم والتحطيم والقتل الذي شهدته الأراضي الفلسطينية وبدأوا بالتعبير عن دعمهم لإسرائيل بشكل أوضح وأقوى في المواجهة الجديدة بين إيران وإسرائيل.
وهذا ما استغله رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لتحقيق هدف رئيسي آخر من هذا العمل، وهو تهميش قضية غزة، وإزالة ضغوط الرأي العام العالمي عليه.
وهد هذا التطور الجديد في العلاقات بين أوروبا وإيران نحو توسيع أخر للعقوبات ضد إيران، خصوصًا بعد إمداداتها من الطائرات المسيرة إلى روسيا والفصائل والمليشيات التابعة لها والعاملة ضمن عدة عواصم عربية في الشرق الأوسط، وأعاد الهجوم الإيراني موضوع العقوبات الإقتصادية على طهران، وخاصة على مشروعها الصاروخي وطائراتها المسيرة.
ولكن ما افصحت عنه نتائج الهجوم الإيراني كان يتعلق بأمر هام
هو التعمد الإيراني الصريح لاستعراض حدود إمكانياته وقوته العسكرية أمام حلفائه ومن يعتبرهم أعدائه ، ومدى قدرة إيران على الوصول لأقصى درجة من سياسة حافة الهاوية في المنطقة، وذلك عبر استكمال استخدام الأجواء العربية للدول الحليفة لها كسوريا والعراق كساحات للمواجهة الإيرانية الإسرائيلية، ومحاولات ضم اقطار عربية أخرى لهذا الصراع، وتهديد سيادة تلك الدول عبر اختراق فضائها الجوي، الذي هو جزء من هذه السيادة، وتشكيل خطر على أمنها القومي واستقرارها الداخلي.
وأتسم السلوك الإيراني في هذه العملية بسعيه إلى تعميم قواعد اشتباك جديدة تسمح له بتوظيف المجال العربي برًّا وجوًّا وبحرًا في لعبة التنافس الجيوسياسي مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، في حين تبقى إيران بعيدةً عن أي مخاطر مباشرة، وفي المقابل تعتبر أي دولة تقبل باستخدام مجالها الجوي في عملية عسكرية إسرائيلية ضد البرنامج النووي الإيراني أو غيره مشاركة في الهجوم وهددت بضربها، وهذا ما أكده قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي بقوله (أنه من الآن فصاعدًا سترُد إيران من أراضيها على أي هجوم تشنه إسرائيل على المصالح والأصول والشخصيات البارزة والمواطنين الإيرانيين، في أي مكان من العالم.).
وأكثر ما تخشى المخاطر الإقتصادية في حالة استمرار تصاعد التوترات العسكرية في الشرق الأوسط، إذ يمكن أن يؤدي هذا التصعيد إلى ارتفاع جديد في أسعار النفط وتعطيل المسارات الإقتصادية ، في حال كثف الحوثيون من أعمالهم ضد السفن التجارية.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتبجة