القاهرة- تحركت الحكومة المصرية سريعا لترضية البسطاء بالإعلان عن مضاعفة المساعدات المالية، بعد قرارات تشمل تخفيف دعم الخبز، ورفع الدعم عن الكهرباء والمواد البترولية، وإلغاء بطاقات التموين التي تمكّن أصحابها من صرف حصص من المواد الأساسية بأسعار رمزية واستبدالها بدعم نقدي.
وتسير الحكومة في طريق شراء صمت الفقراء بموجب الإعلان عن زيادة قيمة المساعدات المالية التي يحصلون عليها ضمن برنامج “تكافل وكرامة” ويستفيد منه أكثر من خمسة ملايين أسرة، يمثلون نحو 20 مليون مواطن يندرجون تحت خط الفقر، وتطبق عليهم شروط الدعم النقدي، مع فتح الباب لتلقي طلبات أخرى من بسطاء تنطبق عليهم المعايير التي حددتها الحكومة.
وأعلنت وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج عن وجود خطة لمضاعفة مستحقات “تكافل وكرامة” لتوسيع دائرة الحماية الاجتماعية، وأن الحكومة بصدد تفعيل مرحلة لقبول مستفيدين جدد، على أن يتم إعفاء أبناء البسطاء المدرجين ضمن برنامج الدعم النقدي من كامل المصروفات الدراسية طوال فترة المراحل التعليمية.
وتستهدف الحكومة من زيادة مخصصات برامج الحماية الاجتماعية امتصاص غضب البسطاء في ظل شعورهم بالعجز عن توفير الحد الأدنى من المستوى المعيشي اللائق، وعدم القدرة على توفير احتياجاتهم الأساسية أمام توجه الدولة نحو الانسحاب كليا من الدعم وما يترتب عليه من انفلات في الأسعار تفوق قدراتهم على التحمل.
وبدت مضاعفة المساعدات المالية لمحدودي الدخل محاولة لتعزيز شرعية النظام المصري في نظر شريحة كبيرة في المجتمع، وعدم إثارة منغصات سياسية بالتزامن مع اقتراب إلغاء الدعم، ورفض تفتيت الكتلة الشعبية الأكثر تمسكا بالأمن والاستقرار، ويعوّل عليها في مواجهة التحديات الصعبة.
وتُدرك الحكومة تبعات الانسحاب تماما من دعم الخدمات والسلع الأساسية، ما يتطلب التضحية بمخصصات مالية للفقراء، لأن عكس ذلك قد يسبب تصدعات سياسية وتوترات في الشارع، لأن هذه الشريحة ليس لديها ما تخسره ماديا.
وقال إكرام بدرالدين رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة إن تحصين محدودي الدخل من تداعيات القرارات الاقتصادية ضمانة للاستقرار، فتلك الشريحة تعوّدت على الدعم، والمساعدات المالية المقدمة إليهم تمت بتوجيه من الرئيس عبدالفتاح السيسي، ومن الضروري استمرارها لتجنب خسارة مكاسب تحققت من هذا الإجراء.
وأضاف لـ”العرب” أن هناك أهمية سياسية لتقديم مساعدات مالية لمحدودي الدخل مهما كانت الصعوبات الاقتصادية، فهذا المسار يقطع الطريق على التيارات المناوئة للمتاجرة بالبسطاء، حيث اعتادت قوى معارضة تصوير الأمر على أن الحكومة تتآمر على الفقراء وتتلاعب بهم.
ونجح الرئيس السيسي في تكوين قاعدة شعبية لدى شريحة مجتمعية تتشكل من البسطاء، واعتاد توجيه خطابات استثنائية إليهم، ويصرّ على حمايتهم من دوامة الفقر والغلاء عبر مساعدات مادية شهرية، وأصبح في نظرهم القائد الذي تدخل لإنقاذهم من الجوع والعوز وحمايتهم من مضاعفة الحكومة للأعباء الواقعة عليهم.
◄ الحكومة تستهدف امتصاص غضب البسطاء في ظل شعورهم بالعجز عن توفير الحد الأدنى من المستوى المعيشي
وتبدو خطة ترشيد الدعم مطلوبة، لكن التعامل مع البسطاء له حسابات دقيقة، لأنهم اعتادوا على الدور المجتمعي للحكومة، وعندما تخلت الدولة عن هذا الدور في عهد أنظمة سابقة، تسللت جماعات الإسلام السياسي، مثل الإخوان والسلفيين، لتعويض غيابها وتم استقطاب البسطاء واستثمارهم لإثارة الشارع.
وجزء من خطة زيادة المساعدات المالية للشريحة المتضررة من إلغاء الدعم أن النظام لا يرغب في توظيف تلك الفئة ضده من جانب خصومه السياسيين، وهو ما دفع الحكومة وهي في ذروة أزمتها الاقتصادية لتحصين الفقراء من تبعات الإجراءات المرتقبة، مهما كانت الخسائر المالية، لأن المنغصات السياسية قد تكون أشد.
وتدرك الحكومة أن الفقراء الذين طال صبرهم على ظروفهم المعيشية الصعبة منذ بدء الأزمة الاقتصادية لن يتحملوا صدمة كبرى مثل إلغاء الدعم، وإن كانوا استقبلوا الغلاء في سنوات مضت باحتجاج صامت، لكنهم مع الإجراءات المرتقبة قد يشكلون بؤرة توتر سياسية تتطلب تدخلا استباقيا يعيد ضبط بوصلة العلاقة معهم.
وهناك البعض من البسطاء غير مطمئنين لقرارات الحكومة بزيادة المساعدات المقدمة إليهم، وهي التي تتحدث عن حتمية الخلاص من إرث الدعم، وإن ظهرت منحازة إليهم، لكن توجهاتها نحوهم قد تكون مقدمة لقرارات اقتصادية قاسية، باعتبار أن الحكومة اعتادت توسيع مظلة الحماية الاجتماعية وقت الأزمات.
وأخفقت الجهات المعنية بملف الدعم في مصر على مستوى وزراء الكهرباء والبترول والتموين والمالية، في إقناع محدودي الدخل بحتمية ترشيد الإنفاق على منظومة الدعم، إما لأنهم يتحدثون بطريقة فوقية لا يستوعبها البسطاء أو يستندون إلى مبررات غير مقنعة أحيانا، والنتيجة وجود حالة رفض واسعة للخطاب الحكومي برمته.
ويعتقد خبراء اقتصاد أن الدولة محقة في ترشيد الإنفاق على منظومة الدعم طالما يساء استغلاله باعتياد الملايين من الأسر على الاتكالية وانتظار الحكومة كي تنفق عليهم، وأصبحت هناك ضرورة ملحة أمام الظروف الاقتصادية الصعبة لإعادة النظر في تلك الفاتورة وتحديد مستحقيها البسطاء بشروط صارمة بعيدا عن عبثية الصرف.
وثمة أصوات تدعم وجهة نظرة الحكومة في وصول الدعم النقدي إلى مستحقيه فقط، لكن الظرف السياسي الراهن وارتفاع منسوب الغضب في الشارع لا يحتملان المزيد من القرارات الخشنة وسط منغصات تخيم على الملايين من المواطنين بشأن عدم القدرة على سد احتياجاتهم الأساسية، مهما تعهدت الدولة بحمايتهم.
وأكد إكرام بدرالدين لـ”العرب” أن استمرار مظلة الحماية الاجتماعية رسالة طمأنة من الدولة للبسطاء، تفيد بأنها ما زالت قوية وقادرة على بناء جدار صلب يؤمّن حياتهم مهما كانت لديها رؤية اقتصادية مغايرة تخص ملف الدعم، لأن الفترة المقبلة قد تشهد محاولات بعض التيارات نشر حالة من الإحباط بأن الدولة تنهار اقتصاديا.
ويظل التحدي الحقيقي أمام النظام المصري الحالي أنه ورث تركة ثقيلة من حكومات سابقة عوّلت على الدعم لتحصين نفسها من غضب البسطاء، ما يفرض على الحكومة التحرك في مسار التحرر من هذا القيد الجبري بحسابات دقيقة، إذا أرادت تنفيذ رؤيتها بطريقة تُجنّب السلطة الدخول في مواجهة مع الفقراء.
وليس من السهل ضمان صمت تلك الفئة ولو دفعت الحكومة مقابل ذلك بالمساعدات المالية، في ظل تهاوي منسوب الثقة بين الطرفين والاعتياد على أن ما تقدمه الحكومة باليد اليمنى سوف تأخذه باليُسرى، وهي إشكالية تستدعي إعادة رسم علاقة الدولة مع البسطاء بطريقة تجنبهم عدم خسارة أهم قواعدها الشعبية.
العرب