تعمل إيران على تثبيت وجود دائم لها في شرق سوريا المحاذي للعراق، عبر إقامة معسكرات في مناطق ذات غطاء نباتي كثيف قادر على إخفاء نشاطاتها والميليشيات الموالية لها، ولا تتوانى طهران في ذلك عن طرد السكان الأصليين من تلك المناطق على غرار ما يحدث في بلدة الجلاء التابعة لمدينة البوكمال.
دمشق – أعادت الميليشيات الإيرانية استنساخ تجربة جرف الصخر العراقية في بلدات بريف البوكمال في محافظة دير الزور شرقي سوريا، في خطوة ترمي من خلالها طهران إلى إدامة احتلالها للمنطقة التي تكتسي أهمية إستراتيجية بالنسبة لمشروعها التوسعي الرامي إلى خلق رابط يصلها بلبنان والبحر المتوسط.
أصبحت بساتين بلدة الجلاء بريف البوكمال، والتي كانت قبل اندلاع الأزمة السورية مقصدا للزاور للاستجمام، مناطق مغلقة اليوم، حيث تمنع الميليشيات الإيرانية الاقتراب منها أو دخولها.
ومنطقة الجلاء هي إحدى البلدات الخمسة عشر في منطقة البوكمال، التي تبعد عن مدينة دير الزور 110كلم شرقا، بينما تبعد عن الحدود العراقية – السورية قرابة 8 كلم، وقد وقعت الجلاء كما باقي بلدات البوكمال في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014، قبل أن تنجح القوات الحكومية السورية بدعم من الميليشيات الإيرانية من استعادتها في العام 2019.
وخلال السنوات الأخيرة لم يعد للوجود الحكومي السوري تأثير يذكر في المنطقة، التي باتت اليوم تحت سيطرة كلية للميليشيات الإيرانية.
ويشبه واقع بلدة الجلاء إلى حد كبير منطقة جرف الصخر الواقعة في شمالي محافظة بابل وعلى بعد ستين كيلومترا جنوبي العاصمة العراقية بغداد، والتي تحتل موقعا إستراتيجيا يربط بين المحافظات الغربية والوسطى والجنوبية العراقية ما جعلها محل أطماع إيران.
الوضع في بلدة الجلاء ينطبق حد التماهي مع جرف الصخر، حيث تمنع الميليشيات السكان من العودة إلى منازلهم
وعلى غرار الجلاء، فإن جرف الصخر، هي منطقة زراعية معروفة بخصوبة تربتها وكثافة غطائها النباتي، وكانت تقطنها غالبية سُنّية قبل أن تصبح خاضعة بشكل كامل للميليشيات الشيعية التي أفرغتها من سكانها ومنعت عودتهم إليها بعد أن طردت عناصر تنظيم داعش منها سنة 2014 وغيّرت اسمها إلى “جرف النصر”.
وقد أصبحت جرف الصخر في السنوات الأخيرة منطقة محرّمة على السلطات الرسمية العراقية وتُمنع حتى المطالبة بإعادة سكانها إليها وذلك بموجب قرار سابق لمجلس محافظة بابل يقضي برفع دعوى قضائية على أي من السياسيين الذين يطالبون بعودة أهالي المنطقة إلى ديارهم.
وفي ظل حالة من الغموض بشأن ما يجري داخل الجرف وخلف بساتينه الكثيفة تتوارد أخبار عن اتخاذ عدد من الميليشيات للمنطقة مقرا لتخزين الأسلحة لاسيما الصواريخ التي تقول عدّة مصادر إنّها تأتي مفكّكة من إيران ويتم تركيبها في ورشات أقيمت داخل بساتين الجرف.
الواقع الحالي لجرف الصخر ينطبق إلى حد التماهي مع بلدة الجلاء السورية، حيث تمنع حالياً، الفصائل الإيرانية السكان الأصليين من العودة لمنازلهم القريبة من البساتين، كما إنهم يحظرون حراس المعسكرات تلك من الدخول أو حمل هواتفهم خوفا من استهدافها بالطيران.
ناصر وهو أحد سكان البلدة، يروي لموقع “نورث برس” السوري كيف تحولت البساتين من مكان للاستجمام للسكان إلى مواقع عسكرية بعد سيطرة داعش عليها، ومن ثم ميليشيات إيران. ويقول ناصر في هذا السياق “قام داعش بتسوير البساتين وإدخال آليات ثقيلة، ثم طالب السكان بإخلاء منازلهم القريبة منها لتحويلها إلى مقرات حماية”.
ويضيف “بعد ذلك، بدأ التنظيم بإخراج دورات تدريبية للأطفال الذين انضموا إلى صفوفه، داخل تلك البساتين”. وعند طرد التنظيم الجهادي في العام 2019 استبشر السكان بالعودة إلى منازلهم، لكن الميليشيات الإيرانية فرضت سيطرتها وأقامت معسكرات سرية، مما منع السكان من العودة.
يوضح ناصر “بعد سيطرة القوات الحكومية والفصائل الإيرانية، بدأت هذه الفصائل بإدخال شاحنات محملة بأسلحة ومواد لوجستية، ولازلنا ممنوعين من العودة إلى منازلنا القريبة من البساتين”. ويعتقد أن الميليشيات الإيرانية وداعش اختارت هذه المواقع لقربها من نهر الفرات ولتوفر الغطاء من أشجار النخيل، مما يخفي الأنشطة داخل البساتين.
رياض وهو اسم مستعار لأحد عناصر الفرقة الرابعة التابعة للقوات الحكومية السورية، ويعمل كحارس لإحدى النقاط العسكرية القريبة من البساتين، يقول “منذ 8 أشهر تم إعطاؤنا تعليمات صارمة بعدم حمل هواتفنا أو الاقتراب أو التدخل فيما يجري داخل البساتين”.
ويوضح رياض في تقرير “نورث برس” “مهمتنا الأساسية هي حماية ما في داخل البساتين، دون معرفة تفاصيل ما يحدث فيها”، فيما يشاهد دخول سيارات مدنية محملة بأسلحة وذخائر وحافلات تنقل عناصر غير سوريين، بالإضافة إلى سماع هتافات شيعية أثناء التدريبات.
هناك مؤشرات على وجود مستودعات أسلحة وعناصر غير سورية داخل تلك البساتين، إضافة إلى احتمال وجود سجون سرية
ويشير إلى أنه رغم هذه المشاهدات، لا يُسمح للحراس بالدخول أو الاقتراب من تلك البساتين، حتى خلال إجازاتهم، حيث يتم نقلهم بسيارات خاصة إلى الكراجات للتأكد من عدم دخولهم إلى المعسكر.
وتبلغ مساحة المعسكر حوالي 50-60 دونما، وتحيط به 12 نقطة حراسة من جهة نهر الفرات، وخمس نقاط أمامية في البلدة، ويقول الحارس “توجد داخل البساتين نقاط حراسة لكن ليست لنا علاقة بها ولا يسمح لنا بالتواصل معها”.
من جهته يتحدث ابراهيم الحسن وهو ناشط ميداني من مدينة الميادين بريف دير الزور، عن مؤشرات على وجود مستودعات أسلحة وعناصر غير سورية داخل تلك البساتين، إضافة إلى احتمال وجود سجون سرية.
ويضيف “تثيرنا تساؤلات حول الجهة التي تسيطر بالفعل على هذه المناطق. فعلى الرغم من رفع الرايات الحكومية على نقاط الحراسة المحيطة بالبساتين، إلا أننا نجزم بأن القوات الإيرانية هي التي تتواجد داخل تلك البساتين”.
ويطالب الناشط السوري الجهات الدولية المعنية بفتح تحقيقات حول ما يجري في تلك البساتين، وإعادة السكان إلى منازلهم القريبة من البساتين، “بعد أن منعهم الإيرانيون من العودة إليها خوفا من التجسس أو التصوير أو معرفة ما يجري داخل البساتين”، بحسب قوله.
وانخرطت إيران في الحرب الأهلية السورية منذ العام 2013 عبر الدفع بمستشارين من الحرس الثوري واستقدام ميليشيات من العراق وحتى باكستان وأفغانستان، إلى جانب حزب الله اللبناني. وكان النظام السوري لجأ لإيران لشعوره بخطر فصائل المعارضة التي تشكلت آنذاك وباتت تتمدد في أنحاء واسعة من سوريا نتيجة الدعم الإقليمي المقدم لها.
واعتقد الرئيس بشار الأسد أن الاستعانة بإيران سيكون وقتيا، وسينتهي بمجرد سيطرته على الوضع، لكن توقعاته خابت، حيث عملت إيران على بناء بنية تحتية عسكرية في عدد من الأنحاء السورية لاسيما شرق البلاد. ويرى محللون أن ما يحدث اليوم في منطقة البوكمال يشي بأن إيران باقية في سوريا، أو أقله في شرق سوريا.
العرب