خلال عقود كان النظام في إيران يبني نفوذاً إقليمياً متزايداً، وبشكل خاص في جواره العربي، مع استغلال لحالة فراغ كبير، أدت إليه عوامل كثيرة ساعدت نظام طهران على التمدد بشكل متعاظم.
لم يكن هذا التغول الإقليمي الإيراني مستنداً إلى قوة ذاتية للمشروع، ولكن هذا التمدد كان برضى دولي، حيث كانت أنظار القوى الدولية ترقب تعاظم نفوذ طهران بشيء من غض الطرف، ولأهداف لا تبتعد عن حالة الانقسام الطائفي الشديد الذي عصف بالمنطقة، ولازالت سكينته تُعمل أثرها في الأنساغ الاجتماعية والروحية والثقافية لشعوب عربية تعاني من ويلات التدخل الإيراني الذي يتخذ أشكالاً وشعارات مختلفة، والذي بلغ حد التفاخر بالسيطرة على أربع عواصم عربية، والقول بأن الحدود الحقيقية لإيران ليست تلك المرسومة على الخريطة، بل تتعداها إلى شواطئ البحرين: الأحمر والمتوسط، وما هو أبعد.
كانت الميليشيات التي تشكلت على علم وبدعم إيراني تقاتل في مناطق في اليمن والعراق، بغطاء ورضى أمريكي، على أساس أنها قوات تحارب الإرهاب، وفي الساحة السورية كانت إيران تبني ميليشياتها، دون أن تتحرك واشنطن أو حتى إسرائيل ـ حينها ـ ضد تلك الميليشيات، لدرجة أن طهران أصبحت لديها مدن ومربعات أمنية داخل سوريا، غير مسموح لغير المرتبطين بإيران بالوصول إليها.
ومع تعاظم النفوذ العسكري والأمني الإيراني في البلدان العربية التي تدخلت فيها طهران تعاظم نفوذها الاقتصادي في تلك البلدان التي عملت ميليشيات إيران فيها على أنماط مختلفة من اقتصادات الحرب، عبر تهريب السلاح والنفط، وعمليات غسيل الأموال، والاقتصادات الموازية، والشركات الوهمية، وغيرها من الوسائل التي شكلت بها طهران امبراطورية مالية كبيرة عابرة للحدود.
كانت القوى الدولية راضية عن الأداء الإيراني خلال السنوات العشر الأخيرة تحديداً، هذا الأداء الذي مهد الأرضية لإسرائيل للقيام بجريمتها الكبرى ضد غزة، وسط حالة من الانقسام الطائفي في دول المنطقة، ناهيك عن أن جراح غزة ـ على فظاعتها ـ جاءت ضمن سلاسل جراح كثيرة نكأتها طهران، وشغلت كثيرين ـ للأسف ـ عن الجرح الفلسطيني، أو على الأقل لم تُتح المجال لارتقاء الوعي الشعبي العربي لمستوى الجرح الفلسطيني الكبير، بعد أن تعمقت جراح المنطقة في أكثر من بلد، ناهيك عن الأوضاع الاقتصادية المتردية، وتراجع منسوب الوعي بالقضايا العربية، ودخول إسرائيل على خط التطبيع الذي كان أحد مبرراته العمل لتحقيق حلم الفلسطينيين في إقامة دولتهم، لتؤول الأمور إلى عدم قدرة التطبيع على إقناع إسرائيل بوقف مجازرها في قطاع غزة، ناهيك على انتزاع حقوق الفلسطينيين.
ومع وصول المد الإيراني إلى سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، ومع استمرار الرضى الدولي عن دور طهران، ومع تزايد الانسحابات العربية من ساحات وقضايا هي في صميم الأمن القومي، بدأ قادة النظام في إيران تطوير استراتيجيات محددة لتجاوز قواعد الاشتباك الأمني والسياسي والعسكري التي سادت خلال عقود. أصابت طهران الحالة التي تصيب القوى الصاعدة، عندما تسكر بالقوة، وحينها بدأ الطموح الإقليمي يتجاوز الحدود المرسومة له دولياً، وهي الحدود التي تتضمنها المعادلة: «إيران أقوى من العرب، إيران أضعف من إسرائيل» تلك المعادلة التي يبدو أن طهران سعت مؤخراً لكسرها، متجاوزة دورها الذي يراد له أن يثير الاضطرابات لإضعاف المنطقة العربية، لصالح إسرائيل، دون أن يمس هذا الدور بالمصالح الغربية أو الإسرائيلية.
بالتحجيم الذي يأتي ضمن «استراتيجية الاحتواء» يتم التوصل إلى «إيران المطلوبة»، التي تخدم المصالح الغربية، بما تثيره من صراعات طائفية، في الوقت الذي ترفع فيه شعارات معادية للغرب
رأت إيران في السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023 فرصة لزيادة الحصة الإيرانية، في مزاد الشرق الأوسط الذي ظنت طهران أنه حان الوقت لقطف ثمار استراتيجياتها فيه، وظنت أنها يمكن أن تستثمر أكثر في بنك الدم العربي في فلسطين ولبنان، وأن تستمر في القتال بدماء وأموال ومقدرات الآخرين، مع بقاء حدودها آمنة من الحرائق التي ظلت طهران تشعلها منذ سنوات، واستمرت في تنفيذ هذه الاستراتيجية، غير مدركة أنها تتجاوز دورها المرسوم.
وعندما تجاوزت طهران الدور المرسوم لها، يبدو أنه تم اتخاذ قرار بتقليص هذا الدور الذي سمح له بالتمدد، وقد تم مناقشة طريقتين لتقليص هذا الدور: الأولى تتمثل في التعاطي المباشر، بضرب النظام في مفاصل قوته الداخلية، وكانت بعض الدوائر في إسرائيل والولايات المتحدة تؤيد هذا الطرح، غير أن الاستراتيجية الأخرى ـ وهي الأسهل والأكثر قابلية للتطبيق ـ تمثلت في ضرب بعض أذرع النظام ومصداته الأمنية التي بناها خلال عقود لمنع وصول النار إلى حدوده، وذلك بضرب ميليشياته التي لها تأثير مباشر على إسرائيل، مع الإبقاء على ميليشيات أخرى يمكن أن يتم ادخارها لجولات مقبلة من الصراع الطائفي الذي تشارك فيه إيران بقوة، والذي يخدم مصالح القوى الدولية التي تقول طهران إنها تواجهها.
وقد تجلت عمليات تقليم أظافر النظام في إيران في الانهيار السريع لميليشياته في سوريا، حيث فقدت طهران في هذا البلد ـ خلال أيام ـ ما كسبته خلال سنوات طويلة، وذلك بعد خسارة إيران لمدينة حلب، واندحار ميليشياتها عن مساحات شاسعة شمال سوريا، وهو ما يُعد مؤشراً على بداية تضعضع الدور الإيراني في ذلك البلد الذي عانى من سيطرة ميليشيات طهران على مساحات شاسعة من ترابه.
ويبقى السؤال عن الحدود التي تريد القوى الدولية إعادة رسمها للدور الإيراني، إذ لا يبدو أنه مطلوب التخلص منه بشكل كامل، لأنه لا يزال مطلوباً، وللأهداف ذاتها التي جعلت الفاعلين الدوليين يسمحون بتمدده خلال العقود الماضية، الأمر الذي يعني أن المطلوب هو مجرد إيصال رسالة لطهران تعيد دورها لحدوده المرسومة، وتعيد ضبط قواعد الاشتباك ليس أكثر.
ومع اشتداد الصراع بين المشاريع المختلفة على أرض لا تملك مشروعاً قوياً يستطيع مواجهة تلك المشاريع تضيع فرص كبيرة كان من الممكن لأصحاب الأرض استغلالها، مثلما تستغل القوى الدولية الإقليمية الأخرى الفرص، لتحقيق مصالحها، على حساب مصالح أصحاب الأرض الذين دفعوا ـ ولا زالوا يدفعون ـ فاتورة باهظة للاحتقانات الدولية التي ترى في دولهم خاصرات رخوة تنفجر فيها تلك الاحتقانات التي يؤدي انفجارها إلى إعادة رسم الحدود والخرائط ومناطق النفوذ، بما يتناسب مع مصالح القوى التي تملك القدرة على التحرك في الوقت المناسب، لحماية مصالحها.
الخلاصة: تريد القوى الدولية تحجيم الدور الإيراني، وليس القضاء عليه بشكل كلي، التحجيم مناسب، لأنه يبقي على الجانب المؤذي للجوار العربي، ويضعف الجانب المؤذي لإسرائيل والمصالح الغربية، وبالتحجيم الذي يأتي ضمن «استراتيجية الاحتواء» يتم التوصل إلى «إيران المطلوبة» التي تخدم المصالح الغربية، بما تثيره من صراعات طائفية، في الوقت الذي ترفع فيه شعارات معادية للغرب.