ترزح قوات تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية» في المنطقة الشرقية من محافظة حلب السورية تحت وطأة الضغط منذ تشرين الأول/أكتوبر إذ تضطر للقتال على عدة جبهات ضد «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي وحلفائه العرب بالقرب من “سد تشرين” الضخم، وضد الجيش السوري والطيران الروسي في محيط مطار “كويرس” العسكري وبحيرة “الجبول”، وضد اتحاد جماعات الثوار المسمّى «جيش الفتح» (الذي تهيمن عليه «حركة أحرار الشام» و«جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة») في معبر”أعزاز” بين حلب والحدود التركية، وكذلك ضد أهالي مدينة “منبج” التي يتقدم نحوها «حزب الاتحاد الديمقراطي» وحلفاؤه. ومع استحواذ هذا الأخير على الجسر السليم الوحيد فوق نهر الفرات على مسافة مئات الأميال، ومع احتمال تقدم الجيش السوري بصورة أكثر في الشمال أو الغرب، قد يتعذر على مجموعة كبيرة من مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» المتواجدين في منطقة حلب الوصول برّاً إلى عاصمتهم في الرقة. إلا أن هذا الاحتمال يثير السؤال من الذي قد يستفيد من القضاء على تنظيم «داعش» على هذه الجبهة وكيف سيستفيد من ذلك.
منطقة متعددة الأعراق ذات تضامن قبلي ذو نفوذ
على الرغم من أن السكان الحاليين في شرق محافظة حلب سنّيون بمعظمهم تقريباً، إلا أنهم ينقسمون ما بين جماعات عرقية مختلفة وقبائل وعشائر أكثر انقساماً تشكل شبكة التضامن الأساسية في الأرياف والمدن. وبينما يشكل العرب غالبية السكان، توجد أقليات كردية وتركمانية قاومت موجة العروبة، في حين اندمج الشركسيون في المجتمع العربي بعد أن تلاشت هويتهم تدريجياً منذ أن أحضرهم العثمانيون إلى المنطقة منذ أكثر من 150 عاماً. أما المسيحيون الذين كانت أعدادهم كبيرة في بلدات “جرابلس” و”كوباني” و”أعزاز” الحدودية حتى خمسينات القرن الماضي فقد رحلوا عنها تدريجياً نحو مدينة حلب ودمشق.
بالإضافة إلى ذلك، إن هذه المنطقة ريفية إلى حدٍّ كبير، فمؤشرات التنمية البشرية فيها تأتي في المرتبة ما قبل الأخيرة في البلاد ويليها “وادي الفرات”. وقد شهدت نموّاً سكانياً كبيراً على مدى الأعوام ليزيد معدل النمو السنوي عن ثلاثة في المائة قبل الحرب الأهلية.وحيث تهيمن الزراعة على المنطقة، تحتوي أيضاً على ثلاثة أقطاب حضرية تكاد تخلو من الصناعات، وهي: “الباب” و”منبج” و”جرابلس”، مع الإشارة إلى أن المشروع الصناعي الوحيد فيها هو مصنع الإسمنت التي أنشأته شركة “لافارج” الأوروبية بين الأعوام 2008 و2010.
“أكراداً من الناحية التاريخية“
يعتبر الأكراد أنفسهم أصحاب أجزاء كبيرة من هذه المنطقة، بما فيها البقعة الطويلة الممتدة على طول الحدود التركية – وليس فقط مقاطعة “عفرين” في الغرب ومقاطعة “كوباني” في الشرق المتواجدتين تحت سيطرة الأكراد، إنما أيضاً الأراضي الواقعة بينهما والتي تسيطر عليها مجموعات الثوار أو تنظيم «الدولة الإسلامية». وللأكراد آراء مشابهة بشأن “منبج” التي تقع في عمق المنطقة الجنوبية من الحدود. ومع أن غالبية سكان بعض هذه المناطق من العرب، إلا أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» لا يزال يعتبرهم “أكراداً من الناحية التاريخية“، مستنداً في حجته هذه بالظاهر على مفاهيم من القرون الوسطى وأيام صلاح الدين.
ومن هذا المنطلق، يسعى «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى ضمان تواصل إقليمي بين مقاطعة “عفرين” التابعة له وما تبقّى من منطقته الكردية التي أعلن سيادته عليها من تلقاء نفسه (والمدعوة “روج آفا”). وقد سبق لهذه الجماعة أن ضمّت إليها منطقة “تل أبيض” ذات الغالبية العربية التي تقع أكثر بعداً إلى الشرق، وسيصعب عليها تكرار هذا الإنجاز في المناطق الأكثر اكتظاظاً بالسكان – فابتداءً من عام 2010، أقام أكثر من مليون نسمة في مناطق “أعزاز” و”الباب” و”منبج” و”جرابلس” المتنازع عليها، مقابل 130 ألف نسمة تقريباً في “تل أبيض”. وصحيحٌ أن مئات آلاف المدنيين هربوا إلى تركيا منذ ذلك الحين، إلا أن الأكراد لا يزالون يواجهون تحدّي دمج شريحة كبيرة من السكان العرب في “روج آفا”– ناهيك عن الأقلية التركمانية المحلية التي تنعم بحماية حكومة أنقرة.
وبالفعل، ترفض تركيا السماح للأكراد بالسيطرة على كامل الحدود وقد حذّرت عدة مرات من شنّ هجوم عليهم إذا ما تجاوزوا نهر الفرات كما سبق لها أن فعلت في تموز/يوليو حين قصفت موقعاً لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» بالقرب من “جرابلس”. وفي 26 كانون الأول/ديسمبر، قامت «قوات سوريا الديمقراطية» (وهي عبارة عن تحالف يضم «حزب الاتحاد الديمقراطي» وحلفاءه العرب) بالسيطرة على “سد تشرين” قبل أن تستحوذ بعد ثلاثة أيام على بلدة “أبو قلقل” عند الضفة المقابلة من النهر لتصبح بذلك على بعد اثني عشر كيلومتراً فقط من “منبج”. وعلى الرغم من أن البلدة لا تقع في مرمى الصواريخ التركية، إلا أنه يمكن لأنقرة أن تضرب قوات «حزب الاتحاد الديمقراطي» هناك بأسلحة أخرى، مع أن ذلك قد يكون صعباً من الناحية السياسية في الوقت الذي ينخرط فيه الأكراد في قتال تنظيم «داعش» على الحدود التركية الجنوبية وعندما تكون المنطقة الحدودية التي يحاول «حزب الاتحاد الديمقراطي» السيطرة عليها هي الممر الرئيسي لإرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية» العابرين إلى أوروبا من الشمال وللمتطوعين القادمين من الجنوب للانضمام إلى التنظيم في سوريا. ومع ذلك، يبقى بوسع الحكومة التركية أن تحاول تبرير ضرباتها على الأكراد بالنظر إلى العلاقات الوثيقة بين «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«حزب العمال الكردستاني». وفي الواقع، بدون التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع أنقرة، يرجّح أن تعمل تركيا على تقويض أي مكاسب كردية في سوريا.
ومع ذلك، فإن العائق الرئيسي أمام أهداف «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو التحدي المتمثل بإخضاع مثل هذه المنطقة العربية والتركمانية الواسعة وإحكام سيطرته عليها. فهل يتقبّل السكان المحليون وصول المقاتلين الأكراد؟ من المؤكد أن الوضع بين العرب والأكراد في شرق محافظة حلب لا يحمل على المواجهة بقدر ما يحمل عليها في شمال شرق سوريا، فالاختلاط السكاني في المنطقة الأولى أكبر منه في الثانية، كما يشيع فيها الزواج بين الفئتين. بالإضافة إلى ذلك، بما أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» قد تحالف مع الميليشيات العربية، يمكن أن تكون القبائل المحلية أكثر استعداداً لإعلان ولائها للطرف السياسي المهيمن كما أعلنت الولاء لـ تنظيم «داعش» خدمةً للمصالح القبلية.
هل سيصبح تنظيم «الدولة الإسلامية» محاصراً؟
بينما سيطر «حزب الاتحاد الديمقراطي» وحلفاؤه على “أبو قلقل”، أشارت عدة مصادر إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يتخلى عن “منبج”، وذلك بالدرجة الأولى لأنه يواجه عداوة محلية كبيرة فيها وقد يتعذّر عليه الدفاع عن البلدة بوجه الزحف الكردي. ففي 12 تشرين الثاني/نوفمبر، احتّج المدنيون في “منبج” على تجنيد الشبان بشكل إجباري للقتال مع تنظيم «داعش» على جبهة “أعزاز” الأمامية. وفي 19 كانون الأول/ديسمبر، قام التنظيم بإعدام أربعة عشر مدنياً خوفاً من نشوب تمرّد ضده.
وفي الوقت نفسه، كان الهجوم الذي يشنه «حزب الاتحاد الديمقراطي» مصحوباً بضربات جوية من قوى التحالف، مما يشير إلى أن الخطوة تمت بتنسيق جزئي على الأقل مع الولايات المتحدة ولم تأتِ نتيجة قرار فردي من «حزب الاتحاد الديمقراطي». ومن هذا المنطلق، قد يشكل الزحف نحو “منبج” جزءاً من استراتيجية تهدف لاستعادة الرقة. فإذا سقطت “منبج”، قد تصبح عاصمة “دولة الخلافة“ معزولة في النهاية عن سائر الأراضي الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا. كما أن كافة جسور الفرات المنتشرة من الحدود التركية جنوباً حتى “بحيرة الأسد” أصبحت مدمّرة أو تحت سيطرة الأكراد. لذلك، إذا تقدّم «حزب الاتحاد الديمقراطي» بصورة أكثر نحو الجنوب وشنّ الجيش السوري هجوماً باتجاه منطقة “الباب” أو “بحيرة الأسد”، سيتم محاصرة العديد من عناصر تنظيم «داعش» في شرق محافظة حلب.
من سيكون المستفيد الأكبر؟
أما في الجهة الغربية، فتنخرط حالياً مجموعات الثوار المسيطرة على معبر “أعزاز” في عمليات دفاعية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي سيطر على عدة قرى في تلك المنطقة منذ أيلول/سبتمبر ويتقدم ببطء نحو “أعزاز”. كما أن أولوية «جيش الفتح» المدعوم من السعودية وتركيا تتمثل بالدفاع عن طريق الإمدادات إلى شرق حلب بوجه الأكراد غرباً وبوجه الجيش السوري جنوباً. بيد، يضاعف الطيران الروسي غاراته على المعبر ويُضعف دفاعات الثوار لا سيما بالقرب من معبر “باب السلام” الحدودي، وخسارة تلك الطريق ستترك وحدات الثوار في المناطق الشرقية محاصرةً بشكل شبه كامل من قبل قوات النظام. وفي حين قد تنجح بعض المساعدات في الوصول من معبر “باب الهوى” الحدودي الغربي، إلا أن تقدم الجيش السوري حول حلب يهدد ذلك الطريق أيضاً.
وبالتالي، لن يكون الثوار هم المستفيدون الرئيسيون من تراجع تنظيم «الدولة الإسلامية» في محافظة حلب إلا إذا سُمح لهم بشن الهجمات من تركيا. ومع أن حكومة أنقرة لا ترغب في التدخل مباشرةً في سوريا، إلا أنها قد تسمح للثوار العاملين كوكلاء لها باستخدام الأراضي التركية كمنصة لإطلاق عملياتهم ضد تنظيم «داعش» في “جرابلس”، على سبيل المثال، مع هدف ضمني هو الحؤول دون سيطرة الأكراد على كامل الحدود. وبالطبع ستعتمد أي استراتيجية تُتّخذ على ما إذا كان الثوار مستعدين لقتال تنظيم «الدولة الإسلامية» وما إذا كانوا قادرين على القيام بذلك على نحو فعال.
وفي الوقت نفسه، كان المقصود من الهجوم السوري الأخير على مطار “كويرس” العسكري إنقاذ الموقع العسكري من مجزرة أخرى كتلك التي ارتكبها تنظيم «داعش» في مطار “الطبقة”، إضافةً إلى حماية طريق حلب–السلامية المهددة بغارات تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكن حتى الآن لم تكن للجيش أي نية بالانخراط في أي وقت قريب في حملة أوسع لاستعادة الأراضي التي خسرها في الشرق – فأولويته هي القضاء على جماعات الثوار في مدينة حلب ومحيطها. وقد أدرك الرئيسان بشار الأسد وفلاديمير بوتين أنه لا يجدر بهما منازعة الأكراد في السيطرة على مناطق أخرى، على الأقل مؤقتاً، إنما عملا في المقابل على تسهيل الجهود الكردية من خلال قصف الثوار في معبر “أعزاز”.
ولكنّ إذا نجح الهجوم الكردي الأخير، فقد يغيّر الاستراتيجية السورية والروسية والإيرانية في تلك المنطقة. وإذا وصل الأكراد إلى “منبج”،ف قد يدفعون الجيش السوري إلى شن هجوم على منطقة “الباب” الواقعة شمال شرقي حلب. ويحتمل أن تلتقي القوتان في النهاية فتحتجزان بذلك قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» كما هو موضح أعلاه. وعلى الرغم من أنه لا يبدو أن الرئيس الأسد ولا الثوار في وضع جيد لاستعادة الأراضي التي خسرها تنظيم «داعش» في شرق حلب، قد يتقبّلهم العرب المحليون أكثر مما قد يتقبلون الأكراد.
خيارات قليلة للغرب
منذ الهجوم الإرهابي الذي استهدف باريس في تشرين الثاني/نوفمبر، يصرّ الأوروبيون على إقفال الطريق ذو الاتجاهين التابع لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» عبر تركيا بشكل تام. ولكن في غياب قوة عربية سنية معتدلة قادرة على تلبية هذا الطلب، قد يفضّل الغرب أن يتولى الأكراد إقفال المعبر عوضاً عن الجماعات التابعة لـ تنظيم «القاعدة» على غرار «أحرار الشام» أو «جبهة النصرة». فالأكراد يتوقون إلى تحقيق حلمهم بمنطقة “روج آفا” موحدة على طول الحدود الشمالية بأكملها، لذلك فإن حرمانهم من بعض التقدم على الأقل نحو بلوغ هذا الهدف قد يعني ردع الحليف الفعال الوحيد ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في شمال سوريا. وإذا لم يعمل الغرب معهم لبلوغ هذه الغاية، سيدفعهم بذلك في أحضان موسكو التي سبق وأوضحت لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» استعدادها التام للمساعدة، مع العلم بوجود تنسيق كردي واضح مع القوات السورية في شمال محافظة حلب.
ولكن في الوقت نفسه، لن تقبل تركيا بالسماح لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» بالاستحواذ على كامل الحدود، بينما الغرب بحاجة إلى مساعدة تركيا على عدة جبهات، بما فيها مسألة اللاجئين والحرب ضد تنظيم «داعش». ولذلك ، إذا واصل «حزب الاتحاد الديمقراطي» هجومه باتجاه “منبج” وربما أبعد من ذلك متخطياً الخط الأحمر الذي رسمته تركيا عند الفرات، يتوجب على الولايات المتحدة وشركائها في التحالف أن يتخذوا الحيطة في تحديد ما إذا كانوا سيدعمون هذا التقدم وأين وكيف سيدعمونه – فضلاً عن ردودهم على الاحتجاجات التركية. ومن جانبها، سيتعين على أنقرة أن تقرر إلى أي مدى هي مستعدة لفرض الخط الأحمر نظراً للمخاطر السياسية والدبلوماسية التي ينطوي عليها أي تدخل أكثر عمقاً، وخصوصاً ضد القوة البرية الوحيدة التي تحرز تقدماً بوجه تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا. وفي هذا السياق، يعتبر الهجوم الذي يشنه «حزب الاتحاد الديمقراطي» إشارة واضحة بوضوح مقولة يوليوس قيصر عندما عبر وجنوده نهر “روبيكوني” في إيطاليا: سبق السيف العذل.
فابريس بالونش
معهد واشنطن