تسعى إيران لاستعادة دورها الإقليمي وتأثيرها في المحيط الدولي وتجنب أي ضربة عسكرية استباقية أخرى مع دراسة موضوعية دقيقة لما آلت إليها نتائج وإبعاد الهجمات الجوية والصاروخية والعمليات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية الأمريكية التي انطلقت في الثالث عشر من حزيران 2025 وإعادة ترتيب البيت الإيراني بما يحافظ على مرتكزات وأسس وثوابت العقيدة السياسية والأمنية الإيرانية والسعي نحو تحقيق آفاق جديدة في العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والعمل باتجاه إمكانية العودة لطاولة الحوار والمفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أن الأوضاع الداخلية الإيرانية تشهد انعطافة خطيرة تتعلق بتوسع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وزيادة نسبة البطالة والتضخم المالي وانخفاض كبير في العملة الوطنية المحلية مع أزمة حادة في توفير المياه، وهو ما أعلنه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في السابع من آب 2025 بقوله (أن البلاد على أبواب أزمة تهدد بعدم إمكانية توفير مياه الشرب ؤأن الاستهلاك المفرط وسوء الاستخدام يهددان بجفاف السدود في العاصمة طهران مع حلول شهري أيلول وتشرين الأول المقبلين).
تخشى الحكومة الإيرانية من اندلاع موجة من الاحتجاجات الجماهيرية بسبب تنامي مخاطر الأزمات التي يعانيها أبناء الشعوب الإيرانية وتكرار الاحتجاجات الواسعة بسبب أزمة المياه التي انطلقت صيف عام 2021 جنوب غرب إيران، حيث نزل الآلاف إلى الشوارع للمطالبة بتوفير المياه والخدمات الأساسية.
أمام هذه المعطيات الميدانية والوقائع والأحداث المستمرة، تسعى القيادة الإيرانية لمحاولة العودة لجولة سادسة من المفاوضات غير المباشرة مع الإدارة الأميركية وبحضور المبعوث الرسمي الأمريكي ستيف ويتكوف عبر الوسيط العربي الخليجي العُماني، في سعي واضح لحلحلة الأزمات التي تعانيها وإيجاد الحلول الجذرية للوصول إلى قواسم مشتركة حول اتفاق نووي يعيد لإيران أموالها المجمدة ويرفع العقوبات الاقتصادية عنها، بعد الأضرار الجسيمة التي لحقت بها في حزيران 2025، ومعالجة أوضاعها الداخلية وإمكانية العمل على منع أي عملية أو مواجهة عسكرية قادمة وضربة جوية وصاروخية إسرائيلية أخرى، مع تعزيز دورها بتهيئة الأجواء السياسية المناسبة للإنطلاق بجولة من العلاقة مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية والسماح لهم بالعودة لإيران بعد القرار الذي اتخذه مجلس الشورى الإيراني وحظي بموافقة مجلس صيانة الدستور بمنع دخول المدير العام للوكالة الدولية رافائيل غروسي للأراضي الإيرانية واعتباره والعاملين معه جواسيس لجهات دولية تهدد الأمن القومي الإيراني.
إلا أن الموقف الحالي للرئيس بزشكيان والذي أوضحه في الحادي عشر من آب 2025 بضرورة تفاوض إيران مع الولايات المتحدة، وتحذيره من أن (بديل الحوار هو حرب المواجهات) وأن البديل عنها توجيه ضربة ثانية ، في إشارة إلى أنه حال قامت إيران بإعادة بناء المنشآت النووية الإيرانية التي قصفتها الطائرات الأمريكية والإسرائيلية في حزيران 2025 ، فإنها ستتعرض للقصف مرة ثانية، وأن الحديث عن الحوار لا يعني الهزيمة أو الاستسلام.
انطلقت بعدها الأصوات الرافضة لهذه التصريحات من قبل السياسين الإيرانيين في تيار المحافظين
خاصة المرشح الرئاسي المحافظ السابق وعضو مجمع تشخيص مصلحة النظام( سعيد جليلي) منتقد الداعين للتفاوض قائلًا (اليوم وبعد أن هاجمنا العدو في أوج المفاوضات، وحقق الشعب الإيراني النصر، هناك من يعود لطرح التفاوض من جديد) في انتقاد صارخ وواضح لموقف الرئيس مسعود بزشكيان
كما هاجمت وكالة تسنيم القريبة من الحرس الثوري الإيراني تصريحات بزشكيان معتبرة أنها ( تقدم للأعداء صورة ضعيفة ومأزومة عن إيران) تظهر وكأنه (لا خيار أمامها سوى الحوار) ولكن صحيفة طهران تايمز الإنجليزية التابعة لمنظمة الدعوة الإسلامية المرتبطة بمؤسسة القيادة الإيرانية، قد نشرت في التاسع من آب 2025 (أن المفاوضات بين إيران وأميركا قد تبدأ في الأيام القادمة من آب، وأن دولة النرويج تعد أحدى المحددة للوساطة والحوار).
وبغية مراعاة الأصوات الداعية لعدم التفاوض واتباع سياسة إظهار القوة والممانعة، دعى وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الإدارة الأمريكية إلى توضيح اسباب الهجمات العسكرية التي أتت في وقت كانت القيادة الإيرانية تنتظر عقد الجلسة السادسة من المفاوضات بينهما في العاصمة العُمانية ( مسقط) ثم عليهم تعويض إيران عن جميع الأضرار التي تسببوا فيها خلال (12) يومًا، وضمان عدم تكرار أي هجمات مستقبلية في حال انعقاد المحادثات بين واشنطن وطهران.
وأن اختيار المرشد الأعلى علي خامنئي لمستشاره علي لاريجاني وتكليفه بالعودة لرئاسة مجلس الأمن القومي الإيراني، تأتي لقناعته بالامكانية التي يمتلكها لاريجاني في قيادة أي مفاوضات قادمة مع الولايات المتحدة الأمريكية، كونه على دراية تامة بما جرى في المفاوضات السابقة الخاصة بالبرنامج النووي في عهد الرئيس محمود أحمد نجادي،كما أنه يتمتع بعلاقة جيدة مع الحلفاء الرئيسين شركاء إيران من القيادتين الروسية والصينية وإمكانية إعادة العلاقات معهما بمستواها الذي كان قبل الضربات الإسرائيلية الأخيرة، واما الأوروبيين فيمكن التفاهم معهم حول تأجيل العمل بآلية الزناد بالموافقة على عودة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية والبدأ بمفاوضات مع الإدارة الأمريكية وتعزيز الدورالاوربي عبر ربط المصالح الاقتصادية وتوسيع الاستثمارات المالية داخل إيران.
رغم أن القناعة الإيرانية ثابتة بتوجيه ضربة عسكرية نحوها إلا أنها تبقي مسار التفاوض والحوار الدبلوماسي قائم، وهو ما أشار إليه نائب وزير الخارجية الإيراني (مجيد تخت روانجي) في الأول من تموز 2025 عن استعداد إيران ( لاستئناف المفاوضات النووية ولكن شريطة تقديم الولايات المتحدة الأمريكية ضمانات بعدم توجيه أي ضربات جديدة على إيران)، ومناقشة الطلب الأمريكي بعدم تصفير نسبة تخصيب اليورانيوم وإنهاء البرنامج النووي بصورة كاملة.
لا تزال الإدارة الأميركية وبتأثير من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تبحث عن الوسائل والأساليب التي اتبعتها إيران في نقلها (408) كغم من اليورانيوم المخصب من مفاعلاتها ومحاولة التوصل إلى أماكن الاحتفاظ عنها، ومنع إيران من اتباع سياسية الغموض النووي في أي مفاوضات قادمة يتفق عليها الطرفين، مع التزامها بالحد الأدنى من التخصيب في الداخل والعودة للمعايير التي أقرتها اتفاقية العمل الشاملة المشتركة في تموز 2015 بالسماح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67٪ وعدم امتلاك مخزون كبير من اليورانيوم المخصب وتقليل عدد أجهزة الطرد المركزية إلى 6 آلاف جهاز، أن الموقف الأمريكي والأوروبي ذاهب إلى اتباع سياسة الحوار والحل الدبلوماسي لوضع نهاية توفر أرضية مناسبة لاتفاق نووي جديد.
تبقى جميع الوسائل نافذة والطرق مفتوحة والأدوات صالحة لتحقيق اتفاق يرضى جميع الأطراف من خلال آليات المراقبة عبر مفتشي الوكالة الدولية أو مفتشين أمميين وأمريكيين وحرص القيادة الإيرانية على العودة للمفاوضات والسعي لرفع العقوبات الاقتصادية عنها واعتماد استئناف الحوار خيار اساسي لتحقيق الرغبات الإمكانية والأهداف والغايات الإيرانية.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحث والدراسات الاستراتيجة
