ليس بعد الاستماع إلى ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي حدد فيه بشار الجعفري حقيقة ما جاء به الوفد السوري إلى «جنيف3» وإنما قبل ذلك عندما بادر الروس إلى تصعيد عسكري على جبهات القتال والمواجهة كلها في سوريا، فإنه كان يجب أن تدرك الأطراف الداعمة للمعارضة (المعتدلة) العربية وغير العربية أنَّ فشل «جنيف3» سيكون أكبر كثيرًا من فشل «جنيف2»، وأن قرارات مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لن يطبق منها شيء، وأن موافقة روسيا على هذه القرارات، الغارق بعضها في الرمادية والقابل للتفسيرات المتعددة، دافعها الحصول على مزيد من الوقت لإحراز التفوق العسكري الذي تسعى إليه وإضعاف المعارضين السوريين حتى حدود القبول بالاستسلام ورفع الأيدي إنْ ليس القضاء عليهم بصورة نهائية، على غرار ما كان فعله فلاديمير بوتين بـ«غروزْني» الشيشانية.
وهنا وقبل الاستطراد في هذا الاتجاه فإنه لا بد من التأكيد على أنَّ المعارضة (المعتدلة)، التي لا غيرها معارضة، قد فعلت عين العقل عندما قررت الذهاب إلى «جنيف3» وهي تعرف أن مصيرها سيكون أسوأ كثيرًا من مصير «جنيف2»، فالروس، وبالطبع معهم نظام بشار الأسد، كانوا ينتظرون مقاطعتها ليأتوا ببديلهم الجاهز الذي يسمونه معارضة الداخل والمكون من مجموعة قدري جميل وهيثم المناع وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لصاحبه صالح محمد مسلم الذي لم يعد ارتباطه بالمخابرات السورية خافيًا على أحد، والذي لا ينكر هو نفسه علاقاته السابقة وأيضًا اللاحقة بحزب العمال الكردستاني – التركي الـ«p.k.k» بزعامة عبد الله أوجلان المعتقل الآن في أحد سجون إحدى الجزر التركية القريبة من مدينة إسطنبول التاريخية.
كان يجب أن تذهب المعارضة (المعتدلة)، التي تضم خمسة تنظيمات عسكرية فاعلة على الأرض والتي لا غيرها معارضة نظرًا لأن «داعش» و«النصرة» قد اعتُبرا تنظيمين إرهابيين، وأن تدافع عن حقوق ومطالب شعبها وأن تتمسك بقرارات مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2254 كلها، وأن تصر على «فيينا1» و«فيينا2» وترفض التزحْزُحَ عن «جنيف1» ولو بمقدار قيد أنملة، وأن تركز على المرحلة الانتقالية تتولى الأمور خلالها هيئة حكم كاملة الصلاحيات لا مكان لبشار الأسد فيها ولا وجود له في المرحلة التالية.
لقد حصلت المعارضة قبل ذهابها إلى جنيف، متأخرة لبعْض الوقت بموافقة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، على ضمانات فعلية، من الولايات المتحدة ومن فرنسا وبريطانيا وربما ألمانيا أيضًا، بأن قرارات مجلس الأمن رقم 2254 ستطبق كلها وأن العملية السياسية ستتم وفقًا لـ«جنيف1» وبخاصة بالنسبة إلى ما يتعلق بالمرحلة الانتقالية، وهذه مسألة مؤكدة ولا شك فيها، لكن المشكلة أنَّ التجربة وعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية قد علمت هذه المعارضة وعلمت الشعب السوري وكل مراقب وكل معني بالمسألة السورية أن الرهان على الأميركيين، على إدارة باراك أوباما تحديدًا، غير مضمون ولا يمكن الركون إليه، وأن الرئيس الأميركي ووزير خارجيته وآخرين غيرهما يغيرون مواقفهم بالنسبة إلى هذه المسألة كما يغيرون ربطات أعناقهم.. ولا نريد أنْ نقول أكثر من هذا!!
الآن يقول الروس، والمعروف أن ما يقوله الروس يلتزم به بشار الأسد وطاقمه «الحاكم» كتلاميذ المدارس الابتدائية النُّجباء، أنَّ قواعد الاشتباك قد تغيرت وأن الإنجازات العسكرية على الأرض هي التي تحدد طبيعة المفاوضات وترسم مسارها وبالتالي فإن من استمع إلى ما قاله بشار الجعفري في مؤتمره الصحافي الآنف الذكر لا بد وقد أدرك أنَّ «جنيف3» لن تكون إلاَّ مجرد قفزة في الهواء وبالتالي مجرد مضيعة للوقت، فالجانب الآخر، الذي هو روسيا أساسًا ومعها إيران وتابع لهما نظام بشار الأسد، مستمر بالتمسك بأن الأولوية هي للتصدي للإرهاب، والمقصود هنا ليس «داعش» ولا «النصرة» وإنما فصائل المعارضة (المعتدلة) المسلحة المقاتلة، وأنه لن يكون هناك تفاوضٌ، بل محادثات «بين السوريين أنفسهم»، وأن أكثر ما يمكن إقراره والاتفاق عليه هو «حكومة وحدة وطنية» موسعة وإعداد دستور جديد وإجراء انتخابات يشارك فيها هذا الرئيس السوري كما كان قال فلاديمير بوتين أكثر من مرة خلال الشهور الأخيرة.
إذنْ لن يكون هناك أي جديد على الإطلاق، والدليل هو ما كالهُ بشار الجعفري من شتائم واتهامات في أول إطلالة إعلامية له على «جنيف3»، والدليل أيضًا هو أنَّ الروس لو أنهم يريدون النجاح لهذه الجولة «المحادثاتية» إن ليس «التفاوضية» لكانوا أعلنوا وقفًا لإطلاق النار، برًَّا وجوًّا، ولكانوا ألْزموا نظام بشار الأسد، الذي لا يستطيع إلا أن يلتزم بـ«أوامرهم»، بإطلاق سراح المعتقلات وإطلاق سراح الأطفال المعتقلين وتنفيذ كل ما يتعلق بما يسمى «القضايا الإنسانية» وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2254.
إن المفترض أنه معروف ومؤكدٌ أنَّ أي قرار يتعلق بالمسألة أو الأزمة السورية هو قرار روسي أولاً وأخيرًا، وهو قرار الرئيس فلاديمير بوتين تحديدًا، وأن بشار الأسد هو مجرد «شاهد ما شافش حاجة»، ولذلك فإن الواضح وإنَّ ما لا نقاش فيه هو أن الروس يريدون مصيرًا لـ«جنيف3» كمصير «جنيف1»، ولهذا فإنه كان على المعارضة السورية أن تأتي إلى هذه المدينة السويسرية الجميلة بعد حصولها على الضمانات التي حصلت عليها، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار مسبقًا ضرورة أن يكون لديها ولدى من يساندونها، عربًا وغيرَ عرب، البديل الجاهز، الذي في ضوء كل هذه المواقف التي من المفترض أنها معروفة مسبقًا هو مزيد من رصّ صفوف هذه المعارضة والمباشرة وعلى الفور بتحويلها بكل تشكيلاتها إلى ثورة مسلحة.. إذْ «لا يفلُّ الحديد إلا الحديد»، وإذ إنه قد ثبتت عبثية مواجهة الكف للمخرز.
ويقينًا، ما دام أنه كان من الواضح جدًا ومنذ البدايات أنَّ الروس لا يريدون أي حلٍّ سياسي لهذه الأزمة إلاَّ حلهم الذي يبقى على نظام بشار الأسد.. وإلى الأبد، وينهي انتفاضة الشعب السوري بالطريقة نفسها التي أنْهى بها فلاديمير بوتين انتفاضة الشعب الشيشاني في غروزْني، فإنه كان يجب أنْ يكون التركيز ومنذ البدايات على السلاح، فالقوة لا تواجه إلاَّ بالقوة والعنف لا ينفع معه إلاَّ العنف، وهذا ما كان يجب أن تجده القوات الروسية أمامها عندما بدأت تصل إلى سوريا وبدأت باحتلال الأراضي السورية.
إن المحتل وأي محتلٍّ لا يمكن أن يبدأ التفكير بإنهاء احتلاله وبالرحيل والعودة من حيث أتى إلاَّ إذا بدأت جثث ضباطه وجنوده تصل يوميًا إلى بلاده، وإذا بدأ شعبه يسهر الليالي الطويلة خوفًا على أبنائه. والمعروف أن هذا هو ما حصل لجيوش الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وما حصل للجيوش الأميركية في فيتنام وما حصل لجيش فرنسا الاستعمارية السابقة في الجزائر.. إن هذه هي تجارب التاريخ!!
صالح القلاب
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”