قبل بضع سنوات جلست مع وزير الخارجية البريطاني في مطعم في مكان ما في إحدى مدن الشرق الأوسط نتحدث، في وقت متأخر من الليل، مع وزير خارجية عربي حول الطرق التي يمكن من خلالها معالجة القضية الفلسطينية بشكل جماعي. وفي نهاية السهرة توجّه نحوي وزير الخارجية البريطاني بالكلام وقال “أحب أن أجالسك لأنك تعرف التاريخ”.
بدا ذلك حينها وكأنه مجاملة متكلّفة، لكني كثيرا ما فكرت في ذلك الأمر، حين كنت في العراق، بعد سنة أو سنتين، من ذلك اللقاء، عندما تعوّدت على الحديث مع أصدقائي العراقيين عن تاريخ بلادهم.
كان الكثير منهم مازالوا يحتفظون في بيوتهم بصور فوتوغرافية يظهر فيها أجدادهم أو أجداد آبائهم مع الملكين فيصل الأول وفيصل الثاني وولي العهد عبدالإله، وفي بعض الأحيان رجل الدولة رئيس الوزراء نوري باشا السعيد الذي كان شخصية بارزة في الثورة العربية طوال عامي 1917-1918.
كانوا يقولون دائما إن أيام الملكية كانت أسعد الأوقات التي عرفها العراق، وكانت ثورة 1958 خطأ فادحا. لم يكن هذا هو الخطاب السائد قبل عام 2003، ومازال آخرون كثيرون يحملون رأيا مناقضا إذ أن هناك من يقول إن وجود حكومة شيعية في بلد عربي، لأول مرة خلال ألف سنة هو إنجاز عظيم.
في حين يقول آخرون إن المستوطنة ذات الأغلبية السنية في عشرينات القرن الماضي كانت الشيء الوحيد الذي وحّد البلد، واستشهدوا بمذكرة الملك فيصل الأول الشهيرة التي كتبها لدعم هذه الفكرة قبيل وفاته.
وفي الشمال كان الأكراد يواجهونني بنتائج التنقيحات على معاهدة سيفر التي وقّعت في مدينة لوزان في سنة 1921، ومن وجهة نظرهم حرمتهم هذه المعاهدة من دولة وطنية مستقلة، وهو أمر يسعون الآن إلى إصلاحه. وفي القدس لم يكد يمر يوم دون أن يذكر أحدهم إعلان بلفور الصادر عام 1917.
يمكنك تكرار هذه الحوارات في أي مكان تقريبا في منطقة الشرق الأوسط فالتاريخ في هذه المنطقة حاضر على الدوام ومهم على الدوام ومعترض عليه على الدوام. وأن يعرف أجنبي بعضا من هذا التاريخ على الأقل من المفترض أن يكون علامة زهو، وأرى في بعض الأحيان أن هذا الزهو لا تملكه إلا قلة قليلـــة من الأجانب الذين يزورون المنطقة.
لقد استعدت كل ذلك عندما طلب مني، مؤخّرا، التعليق على عملية إعدام السعودية مؤخرا للشيخ نمر النمر وثلاثة أفراد آخرين من الشيعة و43 جهاديا سنيا تمت إدانتهم بالإرهاب. وكانت أغلب التعليقات التي رأيتها مجرد تعبير عن المشاعر سواء مع المملكة العربية السعودية أو ضدها، وفي الغالب ضدها لأسباب ليست لها علاقة بهذه الحادثة بعينها بل بالصورة التي اكتسبتها السعودية عموما.
الذاكرة التاريخية
بيد أن وضع هذه المسائل في سياقها هو مفتاح الفهم الذي يمكنه وحده أن يوفر المعلومة الصحيحة للتحليل وابتكار السياسات الصحيحة.
ويكتسب هذا الأمر أهمية أكبر عندما تسعى حركات مثل تنظيم الدولة الإسلامية، المعروف أيضا باسم داعش، ونظراؤه من التنظيمات السلفية الجهادية إلى تحويل منتسبيها إلى بشر جدد دون ذاكرة ولا ثقافة ولا سياق ولا تاريخ.
إن ذاكرة ما نحن الآن، وماذا كنا، وكيف وجدنا في زمن تاريخي معين، وكيف انضم إلينا الآخرون هناك، مسألة أساسية لمستقبلنا. والتوصل إلى فهم مشترك لوجهة السفر المرغوبة يعتمد على محاولة صادقة لاستكشاف ماذا تعني تلك الذاكرة الجماعية والفردية.
أمير الكويت الحالي الشيخ صباح الأحمد الصباح كان وزير خارجية بلاده من سنة 1963 إلى سنة 2003 ثم رئيس وزراء، وهو بذلك واحد من القادة الأطول خدمة والأهم في بلده منذ الاستقلال.
وفي سنة 1963 كان واحدا من المعنيين بالتعامل مع ما بعد محاولة العراق في عهد عبدالكريم قاسم ضم البلد إليهما، وهو ما أنذر بأحداث 1990 ويعكس محاولات العراق المتكررة لإبطال اتفاقيات ترسيم الحدود الرسمية. كان الأمير سعود الفيصل الراحل وزيرا للخارجية في الفترة الممتدة من 1975 إلى 2015، أي منذ الحصار النفطي إلى الدولة الاسلامية، ومن عهد الشاه إلى خطة العمل الشاملة المشتركة.
وفي الإمارات العربية المتحدة تتذكر العائلات الحاكمة بوضوح كبير ظروف انسحاب بريطانيا من الخليج في سنة 1970 وما تبعه من ضم إيران لثلاث جزر إماراتية. وفي رام الله يحمل صديقي القديم نبيل أبوردينة كامل تاريخ فتح في مذكراته، وفي رأسه. وفي مصر تتشكل المخيلة السياسية من ثورة أحمد عرابي بين عامي 1879 و1882، وحركة الضباط الأحرار في 1952، وحرب السويس في 1956 وحرب أكتوبر عام 1973. أما في إيران فنجد إضراب التبغ في تسعينات القرن التاسع عشر، والثورة الدستورية بين 1905 و1907، وإسقاط القاجاريين في عشرينات القرن العشرين، وإسقاط حكومة مصدق في 1953 وأحداث الثورة الإسلامية بين عامي 1978 و1979.
أحداث حية
كل هذه المسائل مختلف فيها حتى في بلدانها الأصلية، إذ لم تكن الدستورية في إيران مسألة مباشرة وكشفت على الساحة التوترات بين الحداثيين والنخب الدينية وحتى بين مختلف مدارس الفكر الديني. وكان أحد الأسباب لسقوط مصدق هو عداوة الشخصيات الدينية الكبيرة.
وفي العراق، يبقى إرث البعث في قلب الصراعات الراهنة، مع الاشارة إلى أن فكرة البعث لا تتعلق فقط بصدام حسين بل بنتائج طريقة تأسيس الدولة في العشرينات وإنجاز الملكية وطبيعة ثورة 1958 وإمكانية إرساء قومية علمانية تضم الجميع.
لكن كل هذه الأحداث لا تزال حية في الوعي السياسي الجمعي بشكل على ما يبدو يندر وجود مثيل له في الغرب في الوقت الحالي، فنحن نتصرف في بعض الأحيان وكأن التاريخ وما يحويه من سخط هو في الواقع عائق أمام الفهم. لذا نزع المعلقون الغربيون إلى رؤية زيادة الدعم للأحزاب الإسلامية في بلدان معينة خلال الربيع العربي بمثابة ناتج حتمي للتدين العربي المحافظ، بينما كانت الأسباب في الحقيقة حصيلة سيسيولوجيات سياسية معينة. لقد فوجئنا عندما تبخر ذلك الدعم، في مصر مثلا، ورجع الحكم التسلطي، وبدعم شعبي كبير.
وبنفس الطريقة نخفق أحيانا في تفسير مخاوف السعودية والخليج بصفة عامة من التدخل الإيراني في اليمن (وتحركات الحوثيين والمواقف اليمنية عموما) ضمن سياق إمارة الإدريسي في عسير، وحملات المملكة في الجنوب خلال بداية الثلاثينات من القرن الماضي، وعدم الاستقرار في الأربعينات والخمسينات، والانقلاب الجمهوري المدعوم من مصر في اليمن في سنة 1962، والانسحاب البريطاني من عدن في آخر الستينات. أما عُمان فتنظر إلى كل هذا بشكل مختلف، وذلك لأن تاريخها مختلف تماما.
كثيرا ما يتحدث الناس عن تفكيك حدود سايكس بيكو في الشرق الأوسط نتيجة انهيار الدولة في العراق والشام. لكن هذه الحدود تم الاتفاق حولها دوليا في مدينة لوزان سنة 1921 وتحت ضغط كبير من تركيا التي كانت تستعيد قوتها، وليست هناك إشارة تذكر بأن أي دولة في المنطقة تريد فعلا إعادة فتح تلك التسوية. وبالفعل يفضل الأكراد أن نعود جميعا إلى تسوية ‘سيفر’ التي منحتهم دولة أبطلتها معاهدة لوزان. حدث كل هذا قبل أن نأتي إلى استحضار السياق التاريخي وسوء استعمال المسرح التاريخي من قبل أمثال أبوبكر البغدادي الذي يردد كلمات أبوبكر، أول خليفة في الإسلام، ويحاكي العباسيين (الذين أزاحوا الأمويين) والقادة الكبار من أمثال نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي (على امتداد 1400 سنة) في خطبة واحدة على المنبر في الجامع الكبير في الموصل.
والمغزى المقصود هنا هو أن التاريخ ضروري لأي فهم للشرق الأوسط الحديث، ولا فائدة من اختصار التاريخ في تعليق مبسط، أو في إعطاء دروس في الفضيلة. صحيح أن تكلف عناء فهم الجذور والسياقات التاريخية للصراعات الراهنة ليس بالأمر الهين، لكن إن أردنا أن نفعل ذلك فالتاريخ هو صديقنا.
السير جون جينكينز
نقلا عن صحيفة العرب