في موازاة مؤتمر ميونيخ، وبعد تأييد أنقرة لاتفاق وقف النار في سوريا والإشادة بما تمّ التوصل إليه، بدا أن الأمور ذاهبة في اتجاه مزيد من التعقيد والتصعيد والعنف والدم. النظام السوري يؤكد أن وقف النار لا يعني التوقف عن مواجهة الإرهاب! روسيا تؤكد أنها ستستمر في ضرب «داعش» وغيره من المنظمات، وتتجاوز كل الدعوات لوقف قصفها المجنون لفصائل المعارضة. المسؤولون الأتراك يؤكدون: لن نتردد في سوريا في فعل ما فعلناه في مواجهة الإرهابيين (الأكراد) في جبال قنديل وفي العراق! بالفعل قصفت القوات التركية مواقع كردية. وقال نائب رئيس الحكومة «يلتشين أكدوغان»:«إن تقدّم المقاتلين التابعين لـ«حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي إلى القرب من نهر الفرات في سوريا يشكل خطاً أحمر بالنسبة لأنقرة. إنها مسائل تتعلق بالأمن القومي التركي، وتركيا ليست أمة تنظر إلى ما يجري مكتوفة اليدين»!
هكذا استمرت روسيا في قصف مواقع «داعش» بشكل محدود، وركّزت قصفها على مواقع للمعارضة، رغم مناشدة الرئيس الأميركي لها بوقف هذا القصف والتركيز على «داعش»، مشدداً على أن «من المهم الآن وصاعداً أن تضطلع روسيا بدور بناء عبر وقف حملتها الجوية ضد قوات المعارضة المعتدلة في سوريا»! ودانت فرنسا وأميركا القصف التركي للمواقع الكردية. وترافق كل ذلك مع الحديث عن تدريبات لقوات عربية تكون بأمرة القيادة الأميركية للتحالف ضد «داعش» مستعدة للتدخل البري في سوريا.
أعلن عن مناورات كبيرة في السعودية، وأكدت قطر انضمامها إلى هذه الفكرة بقوة، هدّدت إيران باستخدام كل الوسائل والأسلحة ضد هذا التدخل. زنـّار النار يكبر، تتسع دائرة المواجهات، وتزداد المخاطر إلى حد الحديث عن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة. مسؤولون روس أكدوا لأكثر من شخصية دبلوماسية غربية وعربية ولمسؤولين أمنيين أوروبيين بوضوح: «لدينا كل الأسلحة والتقنيات في سوريا، سنرّد على كل استهداف. ولن نسمح بدخول الأجواء المسيطر عليها من قبلنا». يعني بوضوح سوف نتصدى لكل الذين يتحدثون عن احتمالات التدخل وخططهم العسكرية! وأكد رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف في ميونيخ: الأسـد هو القوة الشرعية الوحيدة. رحيله سيتسبب بـ «الفوضى». كأن وجوده اليوم هو ضمان للأمن والاستقرار والوحدة الداخلية ووقف نزوح وهجرة السوريين، الذين شردوا في كل أصقاع الأرض، ويتعرضون لكل أشكال الظلم والقهر والإذلال والمتاجرة بهم!
رئيس الحكومة السورية المنشق والمسؤول عن الهيئة العليا للمفاوضات من قبل المعارضة رياض حجاب كرّر رفض ما صدر عن كيري ولافروف في ميونيخ قائلاً: «قبل يومين أو ثلاثة أيام رأينا كيري ولافروف يخرجان لإعلان أن روسيا لن توقف الأعمال العسكرية في سوريا. هل هو حقاً مقبول بالنسبة للمجتمع الدولي؟» وأضاف:«اعتدنا على المؤتمرات والعبارات التي تبعث على الأمل، لكننا بحاجة للفعل. الفعل الوحيد الذي أراه هو أن روسيا تقتل مدنيين»! والسيد حجاب هو أدرى الناس بما سمعه من كيري شخصياً قبل الذهاب إلى جنيف يوم قال له بوضوح:«حتى لو ذهبتم وأفشل الروس كل شيء باستمرار قصفهم، فنحن لا نضمن شيئاً»! الموقف الأميركي مشبوه، مدان. لا يريد معارضة، ولا يريد إسقاط الأسد، يريد ابتزاز الجميع، حتى جون ماكين السيناتور الأميركي أكد أن بيان ميونيخ يعني تفويضاً لـ «العدوان الروسي»!
أما السيد «نوربرت روتيجين» عضو الحزب الألماني المحافظ، الذي تنتمي إليه المستشارة إنجيلا ميركل، فقد قال في المؤتمر: «روسيا عازمة على خلق الحقائق على الأرض، وعندما ينجحون في ذلك سيدعون الغرب لقتال العدو المشترك:داعش».
أما إسرائيل، فقد أكد وزير دفاعها موشيه يعلون:«يجب أن ندرك أننا سنشهد قيام جيوب مثل علويستان وكردستان السورية ودروزستان السورية. طالما استمر الوجود الإيراني في سوريا فلن تعود البلاد لما كانت عليه. وستجد بالتأكيد صعوبة في تحقيق الاستقرار كدولة مقسّمة إلى جيوب. لأن القوات السُنية هناك لن تسمح بذلك». أما رام بن باراك، مدير عام وزارة المخابرات الإسرائيلية فقال:«التقسيم هو الحل الممكن الوحيد»! في نهاية الأمر ستتحول سوريا إلى أقاليم تحت سيطرة أي من يكون هناك. العلويون في المناطق التي يوجدون فيها. والسنة في الأماكن التي يوجدون فيها. الدعم الروسي يعطي الأسد سيطرة فعلية على غرب سوريا. لكن جزءاً كبيراً من شرق البلاد تسيطر عليه عناصـر داعش.
هكذا تتقدم فكرة الأقاليم من العراق إلى سوريا. الإقليم- أي المنطقة العربية- سيصبح أقاليم مذهبية وقومية وعرقية، تسيطر عليها بقايا أنظمة وتنظيمات و«حشود» وميليشيات و«قوى شعبية». دويلات ومحميات تتناحر لا تنتج إلا الأحقاد والصراعات! وقد فتحت ممثلية لـ «سنة» العراق في أميركا و لـ«أكراد» سوريا في موسكو، وهذا الأمر ستكون له بالتأكيد تداعيات على تركيا نفسها بسبب تأثيرات العوامل المذهبية والكردية في البلاد. لن تكون في المنطقة قوة كبيرة فاعلة ومؤثرة غير إسرائيل. فعلى المدى البعيد حتى إيران ستتأثر ولو أخذ الأمر وقتاً عندها لاعتبارات عديدة. ولن تكون إيران بمنأى عن نتائج ما يجري في المنطقة، ويبدو أننا لا نزال في بداية مسلسل حروب وانفجارات كثيرة ومتنوعة مرعبة ستأخذ وقتاً، وتتخللها مؤتمرات ومناورات سياسية دبلوماسية كثيرة.
غازي العريضي
صحيفة الاتحاد الإماراتية