مرت سنوات لم يكن فيها لمجلس الخبراء الإيراني المكون في غالبيته من رجال الدين من كبار السن شأن يذكر. وتكمن المهمة الأساسية للمجلس في اختيار الزعيم الأعلى لكن هذا المنصب ظل مشغولا منذ عام 1989.
أما هذه المرة فالوضع مختلف، ففي ضوء اعتلال صحة الزعيم الأعلى آيةالله علي خامنئي (76 عاما)، من المرجح أن يختار المجلس الذي سيتم انتخابه يوم 26 فبراير الجاري لفترة ثماني سنوات خليفته ليرسم بذلك مسار البلاد لسنوات عديدة مقبلة.
والزعيم الأعلى هو صاحب أرفع سلطة عسكرية وقضائية في البلاد وله سلطات واسعة في الإشراف على مؤسسات الحكم الأخرى، بل إن رئيس الدولة الذي يختاره الشعب في انتخابات مباشرة له سلطات أقل.
وعلى مدى عشرات السنين عمل خامنئي منذ خلف مؤسس الجمهورية الإسلامية آيةالله روح الله الخميني على ضمان بقاء طهران معادية للولايات المتحدة في الخارج ولم يقبل على إجراء إصلاحات ثقافية في الداخل. ومن المقرر إجراء الانتخابات البرلمانية في اليوم نفسه لكن نتيجة انتخابات مجلس الخبراء هي التي يرجح أن يكون لها أثر أكبر في المدى الطويل.
رهانات المعتدلين
من حيث الأعداد يثق المتشددون ثقة شبه تامة في أن اليد العليا ستكون لهم. فقد قام مجلس صيانة الدستور الذي يسيطر عليه المتشددون، ويتولى فحص أهلية المرشحين بشطب 476 مرشحا، يعتقد أن الكثيرين منهم من المعتدلين ولم يبق إلا 161 مرشحا يتنافسون على 88 مقعدا.
ومن بين المرشحين المستبعدين حسن الخميني حفيد الإمام الخميني وهو من الشخصيات الإصلاحية المحبوبة. وقد شكك المجلس في مؤهلاته الدينية، لكن قائمة المسموح لهم بخوض الانتخابات تشمل معتدلين بارزين أيضا، ففيها أولا الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي يتمتع بشعبية جارفة بعد أن ساهم في إبرام اتفاق نووي مع القوى العالمية في العام الماضي. وتضم القائمة أيضا واحدا من أبرز من سبقوه في هذا المنصب وأكثرهم نفوذا هو علي أكبر هاشمي رفسنجاني وهو عضو في المجلس الحالي ويخوض حملة دعاية للاحتفاظ بمقعده. وقبل أيام نشر روحاني أسماء 16 مرشحا من بينهم رفسنجاني يمثلون كتلة تطلق على نفسها اسم “أصدقاء الاعتدال”، وشعار حملتهم هو “الاعتدال هو الإسلام”.
في مشهد، ثاني مدن البلاد، حض الإمام محمد باقر فرزانة المصلين على انتخاب مرشحين يحملون شعار “الموت لأميركا”
ويراهن هذا التيار على ضرورة اندماج إيران في المجتمع الدولي، والانفتاح على العالم، بهدف الوصول إلى وضع البلاد في مسار طبيعي يسمح بتدفق الاستثمارات، ويؤدي على المديين القصير والمتوسط إلى تجنب فرض العقوبات كل مرة. كما تروج “كتلة أصدقاء الاعتدال” إلى أنماط وأفكار جديدة تقطع أساسا مع فكرة معاداة الغرب التي ظلت تميز السياسة الظاهرة على الأقل للدولة، فضلا عن نشرها على المستوى الشعبي. كما يرى رواد هذا التيار أن إيران لم تكن لتصمد أكثر، لو لم يتم رفع العقوبات الأممية التي فرضت عليها منذ سنوات.
ويرى المراقبون أن إتباع أنصار هذا التيار لهذه الأفكار، التي تبدو مناقضة إلى حد ما لما دأبت عليه طهران، مرده القناعة بأن ذلك سيساعد على بلورة الطموح بأن تكون إيران قوة إقليمية كبرى. وهو ما يحتم، برأي المتابعين، المراهنة على خدمة الاقتصاد وبحث سبل تطويره، مقابل تجنب تكرار المواقف السياسية السابقة التي كانت دائما سبب وضع البلاد في عزلة، إلى جانب الحد من التدخل في شؤون دول الجوار.
وفي مجلس الخبراء نفسه من المرجح أن يقود كتلة الأغلبية المحافظة متشددون من رجال الدين أمثال محمد تقي مصباح يزدي وأحمد جنتي ومحمد يزدي، وبعض رموز الحرس الثوري، على غرار الجنرال محمد علي جعفري وقاسم سليماني، ويدعمها معسكر كل من الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد ورئيس البرلمان علي لاريجاني. وتتكون هذه الكتلة من تحالف الإسلاميين المتشددين والقوميين المتطرفين.
ومع ذلك، فمن الممكن أن تلعب الأقلية المعتدلة دورا مهما في اختيار الزعيم الأعلى القادم. فعندما اختير خامنئي في عام 1989 بعد وفاة الخميني لم يتخذ القرار إلا في أعقاب اتفاقات سرية محكمة تتجاوز مجرد حصر عدد الأصوات في المجلس.
يراهن المعتدلون على ضرورة اندماج إيران في المجتمع الدولي، والانفتاح على العالم، بهدف وضع البلاد في مسار طبيعي
مخاوف المتشددين
شكا ساسة معتدلون وغيرهم من قرارات الاستبعاد التي اتخذها مجلس صيانة الدستور، وقالوا إن المجلس يهيء الساحة لصالح المتشددين. وانتقد رفسنجاني علنا شطب حسن الخميني. كما وقع 296 من أساتذة الجامعات في مختلف أنحاء البلاد على رسالة احتجاج، بعثوا بها إلى روحاني بسبب استبعاد الكثيرين من انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء. ويقول متشددون إن الشكاوى تنبع من إدراك المعتدلين أنهم لن يفوزوا بأغلبية المقاعد في المجلس.
وفي رسالة بالبريد الإلكتروني قال أمير محبيان، خبير الاستراتيجية السياسية والمحلل السياسي المحافظ في طهران، والذي عمل مستشارا لكبار الساسة الإيرانيين، مشيرا إلى كبار المرشحين المحافظين “الإصلاحيون يركزون على استبعاد مصباح يزدي وجنتي ويزدي من الانتخابات أكثر من تركيزهم على الفوز بالأغلبية”.
ويحاول المتشددون تجنب الدخول في مرحلةٍ الانفتاح على العالم التي تبدو بالنسبة إليهم دخيلة عن الثورة الإيرانية، وتثير مخاوف كبيرة لديهم، وهم الذين ألفوا التعايش والترويج لفكرة العزلة. علما وأن هذا التيار يسيطر الآن على مفاصل الدولة، بعد أن نجح في توظيف شعارات مقاومة الشيطان الأكبر والعداء لإسرائيل وأميركا، من أجل كسب التأييد الشعبي وإخراج منافسيهم من المعتدلين.
ومازالت هذه الشعارات تمثل إحدى أهم أدوات هذا التيار حتى هذه الأيام، إذ دعا رجال دين إيرانيون في خطبة الجمعة الأخيرة قبل انتخابات 26 فبراير، الناخبين إلى التصويت لصالح المعادين للولايات المتحدة. ووجهت هذه الدعوات في اليوم الثاني من الحملة الانتخابية لمجلس الشورى ومجلس الخبراء المكلف خصوصا بتعيين المرشد الأعلى الذي يتولاه آيةالله علي خامنئي البالغ من العمر 76 عاما.
واتهم رجال الدين وسائل الإعلام الغربية بمحاولة التأثير على الإيرانيين ليصوتوا ضد مؤيدي الثورة الإسلامية التي أطاحت شاه إيران في العام 1979. وأعلن آيةالله كاظم صديقي في طهران “أنهم يطلبون من الناس عدم التصويت لأسس الثورة”، مضيفا “على الثوريين المسلمين القيام بالعكس”. وفي مشهد، ثاني مدن البلاد، حض الإمام محمد باقر فرزانة المصلين على انتخاب مرشحين يحملون شعار “الموت لأميركا” على جباههم.
وقال سانام وكيل الباحث في تشاتام هاوس الذي تتركز أبحاثه على الشؤون الإيرانية “المتشددون قلقون للغاية بشأن الخلافة واتجاه البلاد مستقبلا. وهدف المتشددين هو منع أي تحرر اجتماعي أو سياسي داخل الدولة”.
وخلف قرار مجلس الخبراء ستقف جماعات أخرى تتطلع للتأثير في القرار، وعلى رأسها يأتي الحرس الثوري الذي اكتسب نفوذا عسكريا وسياسيا واقتصاديا في عهد خامنئي وسيسعى لضمان ألا يمثل له خليفته أي تهديد.
وستكشف التطورات عما إذا كان بوسع المعتدلين التفاوض مع أغلبية متشددة داخل المجلس أو ما إذا كان المحافظون سيعززون دعمهم لمرشحهم.
صحيفة العرب اللندنية