ولأن آلة الزمن شيء خرافي، فلا يمكن للثوار استعادة لحظة الحادي عشر من فبراير 2011، ومن ثم، العودة إلى الفعل الثوري، حتى تحقيق الأهداف الحقيقية لتلك الثورة، بالطبع، مع تجنب الأخطاء التى وقع فيها الجميع. وأيضاً، وللسبب نفسه، لا يمكن العودة إلى ما قبل 25 يناير/ كانون الثاني 2011، مع تغيير اللافتات والواجهات والوجوه، بعد ما أصاب المجتمع من تصدعات حادّة. والأهم، أنه لا يمكن التوقف عند اللحظة الراهنة، في ظل المتغيرات الحادّة، سواء التي تتعرّض لها مصر، وغيرها من دول الربيع العربي، داخلياً، أو التي تستهدف منطقة الشرق الأوسط برمتها، وتفرض نفسها على الجميع، سواء تلك القواعد الشعبية العريضة التي لا زالت تحمل، في وجدانها، “الحلم الثوري”، على الرغم من تراجع “الفعل الثوري”، أو القوى الاجتماعية التي ترى في الثورة تهديداً لمصالحها، وتتخذ من النظم السلطوية التقليدية ستاراً لها تحت شعارات، مثل الاستقرار والأمن والأمان والدولة القوية والزعامة التاريخية، لتعيث في الأرض فساداً، وتنهب مقدرات البلاد والعباد، وهذا هو المأزق الحقيقي الذي يواجهه الجميع. ولذلك، على قوى الثورة أن تدرك طبيعة التحديات التي عليها أن تواجهها، داخلياً وخارجياً، قبل أن تنتقل من حالة “الحلم الثوري” إلى حالة “الفعل الثوري”.
التحدي الأول هو ما يطلق عليها قوى الثورة المضادة، وهي قوى غير ملموسة، ولا محددة المعالم، لكنها تضم تنويعاتٍ من أصحاب المصالح، ومن عناصر ما تعرف بالدولة العميقة من أجهزة بيروقراطية متكلسة، تساندها نخبة ممن يُطلق عليهم علماء ومثقفو السلطان، وهو ما يشكل قوى اجتماعيةً، لا يمكن الاستهانة بها، كما تصور ثوار يناير لأن قوى الثورة المضادة تعرف أهدافها جيداً، وتملك إمكانات وآليات تحقيقها، والأهم تعرف كيف تسوق تلك الأهداف للعامة، باعتبارها أهدافاً وطنية.
لا يقل التحدي الثاني، وهو الخارجي، المتمثل في مشروع إعادة هيكلة منطقة الشرق الأوسط،
بعد أن انتهت صلاحية مشروع سايكس – بيكو الذي تم ترتيب المنطقة على أساسه قبل مائة عام. بدأت تتضح معالم هذا المشروع شيئاً فشيئاً، مع تطور الأوضاع في سورية، وفي ليبيا، وفي اليمن، ومن قبلها في العراق. يتسرب الحديث تدريجياً حول إقامة دول ديمقراطية، علمانية، والأهم اتحادية، أي فيدرالية على نمط خاص، مبني على التقسيم العرقي والطائفي، وفقد الهوية الوطنية التي قامت عليها دول المنطقة، أكثر من قرن.
ومن هنا، تلتقي إرادة قوى الثورات المضادة الداخلية، بتنويعاتها المختلفة، سياسية وعسكرية وثقافية، مع إرادة القوى الخارجية/ الإقليمية والدولية، فى مواجهة قوى الثورات الوطنية والحلم الثوري الكامن في وجدان جماهير شعوب المنطقة سنوات طويلة، حلم التغيير والانتقال إلى عوالم الحرية والديمقراطية، عوالم المعرفة والثورات التكنولوجية، عوالم العدل والمساواة وحقوق الإنسان، وهو ما يعني أن تعلو إرادة الشعوب فوق إرادة الحكام.
تلك هي التحديات الرئيسية التي تواجه ثورات الشعوب العربية، بعد الصحوة التي طاولتها فيما أطلقنا عليها ثورات الربيع العربي.
لأن “الحلم الثوري” كامن في الوجدان العربي منذ سنوات طويلة، ومرّ بتجارب عديدة بأشكال مختلفة، وحمل شعارات متعددة، تارة قومية ومرّة دينية وتارة أخرى أيديولوجية، حلم استغلته القوى الاستعمارية، وشكلت المنطقة على هواها في حقبة تاريخية سابقة، واستغله المغامرون من دعاة الثورات القومية، ليؤسسوا نظماً شمولية، انتهت بالتبعية للقوى الاستعمارية نفسها بأشكال مختلفة، وفي كل مرة، كانت الشعوب تدفع الثمن الغالي.
ويبقى السؤال المصيري: هل الشعوب قادرة، بحسها الوطني، على استيعاب دروس الماضي الصعبة؟ وهل هي قادرة على أن تتوقف عن النظر إلى الخلف، لتنظر إلى الأمام، أي إلى المستقبل؟ وهل الشعوب لا زالت قادرةً على إفراز نخبٍ صالحةٍ من أجيالٍ جديدة، تكون قادرةً على بعث الوعي، وتوجيه دفة الحراك المجتمعي في الاتجاه الصحيح، وبلورة شكل “الفعل الثوري” الوطني الحقيقي؟
علينا ان نحدّد الإجابة على تلك الأسئلة، قبل الحديث عن أي فعل ثوري. وعلينا أن ندرك حقيقة تاريخية، وهي أن الشعوب الحية قادرة على مواجهة كل التحديات، وحتماً ستنتصر.