بالتزامن مع الانتخابات التمهيدية وفي خضم حملات المرشّحين الديمقراطيين والجمهوريين، والتي أسفرت إلى الآن عن تقدم هيلاري كلينتون، عن الحزب الديمقراطي، التي شغلت منصب وزيرة الخارجية في الفترة الأولى لحكم أوباما، ودونالد ترامب، عن الحزب الجمهوري، الذي يعتبر أن بلاده هي “من دمّر الشرق الأوسط”، تركّز اهتمام معاهد ومراكز الدراسات والأبحاث، التي تلعب دورا استشاريا هاما في صناعة القرار الأميركي، على ملف السياسة الخارجية في الشرق الأوسط والعلاقات مع إيران ودول الخليج العربي وكيف أثّر منهج الرئيس الديمقراطي باراك أوباما في تراجع الانخراط الأميركي في المنطقة، وماذا ينتظر الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة؟
من بين المراكز البحثية التي طرحت، مؤخرا، هذه الأسئلة مجموعة الشرق الاستشارية (ميدل إيست بريفينج)، وقد أجابت عليها ضمن دراسة أكّدت على أن الفترة القادمة ستحدّد الملامح المستقبلية للعلاقات بين الولايات المتحدة ودول المنطقة وأن هناك صياغات جدية يجب أن تستحدث على مستوى السياسة الخارجية والعلاقات بين واشنطن ونظرائها الخليجيين بالأساس.
تغيير الموقف الأميركي
بروز قوة إقليمية أو انهيار أخرى دولية هي تغيرات نوعية لها درجات وآثار متفاوتة، لكن أيا من الحالتين يفرض انصرافا عنيفا عن قواعد راسخة سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. وهذا الانصراف في مراحله الأولى يشجع اختبار الطرق التجريبية لرسم الحدود لما ينظر إليه على أنه توازن جديد للقوة. وفي آخر المطاف يتوصل الأطراف المعنيون إلى “طريقة عمل” تتلاءم مع الواقع الجديد.
السبيل لاستعادة رأسمال الثقة الضائع بين دول الخليج والولايات المتحدة يتمثل في القيام بتحليل رصين لأسباب انعدام الثقة
وعادة ما يتوقف طول هذه الفترة التجريبية على مجموعة من العوامل المركبة، ومن بينها هامش حرية التحرك الذي تتمتع به القوة السياسية في البلدان المعنية. وعندما يكون هذا الهامش كبيرا نسبيا بفضل شكل الحوكمة يمكننا أن نرى أن الخيارات الذاتية تلعب دورا كبيرا.
في منطقة الخليج العربي مثلا نرى حاليا تخلي بلدانها عن المقاربة السابقة الحذرة إزاء الأزمات الإقليمية، صحيح أن ذلك لم يحدث فقط تحت وطأة إنهاء إيران لعزلتها واستمرارها في سياستها الإقليمية العدوانية في الآن نفسه، بل وأيضا من أسباب حدوث التغيير في مقاربة مجلس التعاون الخليجي تجاه البيئة الإقليمية، شعور حكوماته بأن الولايات المتحدة ليست مستعدة لمواصلة دورها السابق في الترتيبات الأمنية الإقليمية في صورة حدوث اختبار جدي، إلى جانب التغيرات في دوافع واشنطن للتحرك وكذلك التدخل الإيراني المتنامي في المنطقة.
عند دراسة التغير الحاصل في الموقف الأميركي الإقليمي، وداخل المنطقة نفسها، سننتهي إلى استنتاج كبير يتمثل في أن طبيعة توازن القوة بصدد التغير، ومن ثم يتطلب تفكيرا جديدا في إحداث تغيرات موازية في المبدأ الأمني في المنطقة، وفق التقرير الأميركي الذي يضيف موضحا: بعبارة أخرى، هناك شيئان يحدثان في نفس الوقت؛ ازدياد عدوانية إيران (دورها في العراق وسوريا ولبنان واليمن كمثال)، وتغير نظرة الولايات المتحدة تجاه كيفية الحفاظ على توازن القوة. وهذا يحدث في إحدى الفترات الأشد خطورة في تاريخ المنطقة الحديث.
أصبحت هذه الدينامية أكثر تعقيدا بحكم أن الولايات المتحدة كانت، بصفة غير مباشرة على الأقل، محفزا على جعل الإيرانيين أكثر عدوانية سواء عبر الغزو الأميركي للعراق أو عبر رفع العقوبات عن إيران دون أي إشارة إلى كبح سياستها الإقليمية القائمة على التدخل في شؤون الدول الأخرى. وسرعان ما أدى هذا الوضع المتمثل في غياب أميركا عن المنطقة من الأحداث الكبرى إلى التدخل العلني لإيران في كل من العراق وسوريا، ثم إلى وقوف الروس إلى جانب الإيرانيين وتوسيع دورهم في المنطقة لملء الفراغ.
وظهرت حقيقتان بوضوح منبثقتان عن السياسة الأميركية الجديدة، تتمثل الأولى في وجوب إعادة تعريف دور الموازن الذي كانت تتعهد به الولايات المتحدة، أما الحقيقة الثانية فهي الدعوة إلى سياسة أكثر استباقية من قبل بلدان مجلس التعاون الخليجي من أجل الحفاظ على الأمن الإقليمي في ظل غياب المكونات الأمنية الكبرى بسبب الربيع العربي، والسياسة الأميركية المتعلقة بمبدأ “لا تفعل شيئــا”، والدور الإيــراني الذي يزداد عـدوانيـة.
كان دور الموازن حقيقة راسخة إلى حد السنوات الأخيرة وكان هذا الدور يعرف سابقا على أنه احتواء لإيران وتحمل جزء من الأمن الإقليمي، وبنيت هذه الخاصية الراسخة على التجارب السابقة وعقود من تركيز المؤسسات. لقد كانت المعيار، لكن يبدو أن الأشياء تغيرت الآن، حيث برز سؤال ملح في كل مكان من المنطقة: كيف للولايات المتحدة أن تلعب دور الموازن بين معسكرين متورطين في صراع يزداد قوة ضدّ بعضهما البعض.
كان للمهمة الواضحة المتمثلة في احتواء إيران آلياتها الخاصة بها وخلقت الأرضية لتكوين علاقات متينة بين مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة، أما الآن فالمسألة يلفها الغموض، فمن الناحية النظرية لا يعني دور الموازن بالضرورة الحيادية، بل إن فهم هذا الدور بالمعنى الموسع يعني الاتفاق على مجموعة من “القواعد” التي تحدد توازن القوة الإقليمي أو بالأحرى القواعد التي تنظم اللعبة. وعندما لا تضع الولايات المتحدة أي قواعد بالاتفاق مع المجتمع الدولي والقوى الإقليمية من أجل تحديد الخطوط العريضة لتوازن القوى على الصعيد الإقليمي وتنظيم طرق لمحاولة تعديل طبيعته، فذلك يعني أن الولايات المتحدة تتخلى طواعية عن دورها كقوة دولية وتسمح للبلدان الإقليمية وقوى عالمية أخرى (مثل روسيا) بمحاولة تشكيل المنطقة وفقا لمصالحها (كما هو الحال مع إيران في سوريا أو العراق).
مطلوب ضمانات فعلية
التطمينات الكلامية ومبيعات الأسلحة لا تجدي نفعا لأنه أصبح واضحا أنه من الصعب أن تكون قوة توازن بين طرفين متصارعين دون التدخل المتواصل بينما يكون كل منهما حليفا أو حليفا محتملا. لقد فهم العرب بسرعة أن الضمانات الأمنية الأميركية أصبحت مشكوكا فيها في أفضل الحالات إذ لم تبد الولايات المتحدة أي حساسية للديناميات الجديدة التي تسببها الكثير من العوامل بما في ذلك أفعالها هي بالذات (مثل غزو العراق والاتفاق النووي مع إيران). لقد برهنت واشنطن مرارا وتكرارا أنها مركزة على التأويلات المتسرعة قصيرة المدى ليس فقط للوضع الإقليمي بل وكذلك لمصالحها بعيدة المدى.
لا تصاغ السياسات في الفراغ من خلال العمل الفكري لعبقري أو مجموعة من العباقرة، بل تخلق من أجل التعامل مع أوضاع واقعية محددة وباعتبار المصالح الوطنية وأهداف صانعي هذه السياسات؛ أما بالنسبة إلى مجلس التعاون الخليجي فهناك حاجة إلى وضع سياسة تعتمد على الدور المتغير لأميركا والطموحات الإقليمية الإيرانية والعلاقات المقامة حديثا بين أميركا وإيران والأثر العميق للربيع العربي على الهيكل الأمني الإقليمي.
ولا غرابة في وجود المئات من الدراسات القيمة التي تقترح جملة من المقاربات المختلفة بخصوص مهمة إعادة بناء العلاقات الخليجية الأميركية بطريقة تستوعب التغيرات في المنطقة وفي دور كل من إيران والولايات المتحدة. المسألة صعبة إذ يجب إعادة تعريف دور الموازن، كما يجب الأخذ بعين الاعتبار عصر ما بعد الربيع العربي المحمّل بصور الثورات الأخيرة. ويجب التفكير جيدا في الطبيعة التجريبية لهذه اللحظة التاريخية في الجانبين بما أنه يبدو أن هامش الخطأ أصبح أضيق بكثير.
لو نظرت إلى المسألة من أي زاوية تشاء ستبقى العلاقات الأميركية الخليجية جزءا مهما جدا من المصلحة القومية للطرفين. وبسبب ما يجري في الشرق الأوسط من إرهاب وطائفية وتطرف تحتاج المنطقة دورا جديدا من الولايات المتحدة كقوة توازن عادلة تضع الصراعات الإقليمية على مجموعة من القواعد الأساسية المتفق عليها دوليا.
وباستطاعة الدبلوماسيين من الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي أن يظهروا معا بالقدر الذي يشتهون ويتصافحون ويكررون العبارات المعتادة من “الصداقة التي لا تتزعزع” و”الشراكة الصلبة”، لكن أي جولة في المنطقة ستكشف على الفور أن خسارة مصداقية واشنطن التي زادتها سياسات الرئيس أوباما تفاقما بلغت درجة عالية جدا.
والسبيل الصحيح الوحيد لاستعادة رأسمال الثقة الضائع بين دول الخليج والولايات المتحدة يتمثل في القيام بتحليل رصين لأسباب انعدام الثقة بين الطرفين. كما يجب أن تقام السياسة الجديدة على درجة من المرونة لاستيعاب الحقائق الجديدة في المنطقة وعلى جملة من القواعد الواضحة لبناء علاقات إقليمية وإدارة الأزمات بشكل جماعي. وسيكون هذا هو أحد أولى مهام الإدارة الجديدة في واشنطن.
صحيفة العرب اللندنية