رغم مرور 13 سنة على تاريخ الغزو الأميركي للعراق، إلا أن هذه المدة لم تكن كافية ليستيقظ العراق من رماده وينجح في لملمة شتاته أمنيا واقتصاديا واجتماعيا. فكل ما تم الحصول عليه هو تعميق دوامة العنف التي مازالت تواصل دورتها الدموية مستفيدة من استفحال موجة الطائفية، وأيضا اتساع دائرة حضور ونشاط الميليشيات المسلحة التي فضلا عن تسببها في اقتتال طائفي مزق البلاد منذ سنة 2005 باتت قوة ذات نفوذ كبير وتأثير على مستوى صنع القرار. هذا دون أن ننسى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على مساحة واسعة من الأراضي العراقية أهمها محافظة الموصل إحدى اكبر المدن العراقية، منذ سنة 2014، وعجز قوات الأمن والجيش العراقيين عن تحريرها.
ويعاني العراق اليوم من أزمة اقتصادية خانقة يتفق المراقبون حول مسؤولية رجال السياسة عنها بسبب تورطهم في عمليات فساد كبيرة جدا كان لها أثرها البالغ على العديد من القطاعات وعلى مستوى معيشة العراقيين، زد على ذلك التراجع الكبير لأسعار النفط الذي ساهم هو الآخر في تعميقها.
وحملت هذه الظروف في مرحلة أولى العراقيين على الاحتجاج، ومطالبة الحكومة بالتوصل إلى صياغة تعاقب الفاسدين وتضع حدا لما يجري. وهو ما قابله حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية بسيل من الوعود والإجراءات التي كانت بمثابة الحقن المهدئة وظلت حبرا على ورق. ويبدو أن الفاعلين السياسيين سواء القابعين على السلطة أو الشخصيات صاحبة النفوذ الديني، قد استشعروا التململ الشعبي الجديد في ظل استفحال الوضع وعدم الإيفاء بالوعود، وعملوا على توظيفه.
وكان الزعيم الشيعي مقتدى الصدر أول من لعب على هذا الوتر عبر دعوته لأتباعه إلى التظاهر في ساحة التحرير بالعاصمة العراقية بغداد، وحثهم على المطالبة بإصلاحات جذرية ومحاربة الفساد. وهو ما تم فعلا، حيث مازال أتباع الصدر الذين انطلقوا منذ يوم 29 فبراير الماضي يواصلون احتجاجاتهم وسط بغداد وعلى مقربة من المنطقة الخضراء معقل السفارات الأميركية والبريطانية، ومختلف مؤسسات الدولة الكبرى.
وأمهل الصدر الحكومة العراقية مدة 45 يوما لإجراء إصلاحات واسعة في البلاد واستبدال الوزراء الحاليين بوزراء تكنوقراط، وهدد باللجوء إلى سحب الثقة من حكومة العبادي في حال عدم التزامها بذلك. كما أعلن الثلاثاء الماضي عن انتهاء أعمال اللجنة التي شكلها الشهر الماضي لاختيار أسماء مرشحين مستقلين لا ينتمون إلى أحزاب سياسية ومن مختلف أطياف المجتمع العراقي لتولي مناصب بدلا عن المسؤولين الحاليين، بهدف تشكيل حكومة جديدة للعراق تقوم بإجراء إصلاحات سياسية ومحاربة الفساد.
يحاول الصدر تدارك ما لم يستطع الحصول عليه عندما كان صلب السلطة على مستوى توسيع دائرة الدعم الشعبي
العودة للواجهة
مازالت التحركات التي يديرها الصدر تطرح أكثر من قراءة، ففيما يذهب البعض إلى اعتبار المسألة حركة جدية وهدفها فعلا محاربة الفساد المستشري في البلاد، يرى البعض الآخر أن هناك سيناريو خفيا يحوكه الصدر للعودة إلى الواجهة السياسية، وقد يكون الأمر بالاتفاق مع العبادي.
ابتعد مقتدى الصدر لبضع سنوات عن العمل السياسي المباشر متعللا آنذاك بحماية شرف العائلة، بعد موجة الاتهام الكبيرة التي طاردته والتي أكدت ضلوع ميليشياته في أعمال عنف طائفية، وبسبب الفساد الذي بدأ يستشري داخل مؤسسات الدولة.
ولهذا راهن على الاحتجاجات كوسيلة تأثير جديدة وقوية، بل أدرك أنه بهذه الطريقة يمكن أن يكون ذا تأثير على الحكومة والعملية السياسية برمتها أكثر بكثير فيما لو كان شريكا في العملية السياسية. وكان ذكيا عندما حاول توجيه المظاهرات لتحاكي معاناة أبناء الشعب العراقي من ضنك العيش وانعدام الخدمات بمختلف أنواعها وتفاقم البطالة والرشوة وغيرها من الحاجيات التي بات المواطن العراقي في أمس الحاجة إليها.
المراوغة السياسية التي يعتمدها الصدر ستنقلب عليه عاجلا أم آجلا إذا لم يتدارك الأمر ويتبنى رؤية واضحة متبوعة بإجراءات تكون كفيلة بتحديد وجهته ومكانه
وقد نجحت هذه الخطة التي يبدو أن الصدر حبك خيوطها بعناية على أكثر من مستوى، فالقيادة والمشاركة القوية والفعلية في موجة الاحتجاج ضد الحكومة العراقية منحته أولا استعادة جزء هام من شعبيته التي فقدها، بل ومنحته دعم البعض من التيارات الدينية، بما في ذلك السيستاني صاحب الثقل الأكبر في العراق، وفق ما أعلنه مكتب الصدر الذي لمح إلى وجود تواصل بين الجانبين وتشاور حول ما يجري. ثانيا، تمكن الصدر من الخلاص من وطأة المشاركة في الحكومة التي فقدت كل مصداقيتها وثقة الشعب العراقي. ويرى المراقبون أنها تحركات يقوم بها التيار الصدري عن وعي بهدف تهيئة الأجواء كما ينبغي لانتخابات 2018، وتقوية مكانته عبر استغلال حالة الوهن التي تمر بها الأحزاب الشيعية اليوم التي تعد منافسا.
ويقدر الكثيرون أن هناك الكثير من المؤشرات تؤكد أن الصدر لم يتخلص حقا من ثقل تهم الفساد، وأنه يلعب اليوم على وتر حاجة العراقيين إلى صوت يتبنى مطالبهم من أجل تأمين عودة بضمانات كبرى وبثقل كبير للحياة السياسية.
مراوغة
يستنكر بعض المراقبين ما يروج عن عدم انخراط مقتدى الصدر في العملية السياسية بشكل مباشر، وأنه لا يستفيد منها بأي شكل من الأشكال. ويتساءلون كيف يمكن التغاضي عن الوزراء والنواب الممثلين له في البرلمان، والوكلاء والمدراء وغيرها من المناصب التي يشغلها أتباعه ضمن حلقة الفساد الكبرى التي تنخر العراق منذ سنوات؟ كما يشككون في الأفكار التي يروجها والتي تصب كلها في إطار مكافحة الفساد. ويستدلون على ذلك بعدم امتلاكه الجرأة الكافية لسحب ممثليه من كل المؤسسات الرسمية التي تعاني من الوهن، وعدم انطلاقه بمواجهة الفساد بدءا بأتباعه الفاسدين الذين ثبتت إدانتهم.
ومن جهة أخرى يتفق المطلعون على الشأن العراقي أن هذا البلد يحتاج إلى تغيير شامل لكل مؤسسات الدولة، انطلاقا من الدستور مرورا بالبرلمان، فالحكومة ثم حل الميليشيات ونزع سلاحها، وتهيئة المجال للقيام بانتخابات حقيقية يتسنى فيها للمواطن العراقي اختيار ممثله دون عقلية المحاصصة الطائفية والعشائرية وغيرها. وهو ما يروج له الصدر في حملته الأخيرة، لكنه وقع في تناقض كبير، ولا أحد يعلم أكان يعيه أو لا، ونقصد مسألة الميليشيات.
الازدواجية الواضحة لدى الصدر تجعل التعاطي مع حملته محفوفة بالشكوك، بل حملت البعض على القول إنها مراوغة مقصــودة تمــت بالتنسيق مع السلطـة
إن مجرد الغوص قليلا في سياق الموجة التي يركبها مقتدى الصدر يقود المتابعين إلى عدم الوثوق في إمكانيات التغيير بالعراق، والإقرار بأن هناك كتلا دينية وسياسية متشابكة قد تختلف ظاهريا ولكنها مرتبطة جوهريا، وتحكمها مصالح خاصة قد تدفعهم إلى الإقدام على الكثير من السيناريوهات من أجل الحفاظ عليها. وهم يعتمدون في ذلك على غفلة المواطن الذي يبحث بين هذه الكتل عن خيط يبعث فيه الأمل بأن الوضع الحالي هو سحابة عابرة.
لكن الحراك الشعبي العارم المتصاعد من الجنوب إلى الوسط وحتى الشمال لا يبدو أنه سيكون كغيره من المرات، وأن المراوغة السياسية التي يعتمدها الصدر ستنقلب عليه عاجلا أم آجلا إذا لم يتدارك الأمر ويتبنى رؤية واضحة متبوعة بإجراءات تكون كفيلة بتحديد وجهته ومكانه على وجه الدقة إما مع صفوف الجماهير وهو ما يعني محاربة الفساد وتأمين مستوى لائق من المعيشة، أو مع صفوف الحكومة الفاسدة.