أكدت مجلة “فورين بوليسي”، في تقرير لها، أن تفجيرات بروكسل أثبتت أنه بات من الواضح بشكل مؤلم أن تنظيم الدولة أصبح عازما على التخطيط لتنفيذ هجمات أكثر حنكة وفتكا بكثير من أحداث العنف المحدودة وتوجيهها في الغرب.
وقالت المجلة إن تفجيرات بروكسل أظهرت أنّ حجم التهديد الذي يشكّله تنظيم الدولة بالنسبة للغرب يفوق كثيرا ما كان يَعتقد معظم الغربيين سابقا؛ فلم يعد هذا التهديد محصورا بتطرّف حوالي خمسة آلاف مواطن أوروبي كانوا قد تركوا راحة منازلهم وأمانها ليحاربوا في صفوف تنظيم الدولة في سوريا والعراق ومؤخرا في ليبيا، ولم يتّسع ليشمل فقط تنفيذ ما يُسمّى مخططات “ذئب وحيد”، وهي عبارة عن هجمات ذاتية التنظيم يقوم بها متطرّفون محلّيون، بحسب التقرير الذي نشره “معهد واشنطن”.
وانتقدت المجلة مسؤولي مكافحة الإرهاب في الغرب، مشددة على أنه ليس من حقهم أن يتفاجأوا من حجم توسع قدرات التنظيم، فهو أمر واضح منذ أكثر من عام.
ونوهت إلى أن أنصار تنظيم «داعش» والمتعاطفين معه يحاولون تلبية دعوة المتحدث باسم التنظيم، أبي محمد العدناني، في آب/ أغسطس 2014، التي طالبهم فيها باستهداف الغرب على أساس فردي. وقد سبّبت هجمات كانون الثاني/ يناير 2015 في باريس على مكاتب المجلة الساخرة “شارلي إيبدو” وعلى محل بقالة لبيع منتجات موافقة للشريعة اليهودية بعض الارتباك، إذ تبيّن ارتباط بعض مرتكبيها بتنظيم «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، في حين كان بعضهم الآخر متأثرا بتنظيم «الدولة الإسلامية».
واستدركت المجلة بالقول: ولكن عند مراجعة هذه الأحداث يتبيّن أنّ هؤلاء “الأصدقاء الأعداء” الإرهابيين (التابعين إلى نفس التنظيمين على التوالي اللذيْن كانا يقاتلان بعضهما البعض في حرب أهلية جهادية في سوريا) لا يزالون جزءا من ظاهرة “المجرم المنفرد”. ومع أنّهم يمكن أن يكونوا قد استوحوا أفعالهم من جماعات مقرّها في الشرق الأوسط، إلا أن هذه الأخيرة لم تكن هي التي تُوجّههم.
وأشارت إلى أنه عقب هول هذه الهجمات ضاع رهج نقطة التحوّل المحورية في إرهاب تنظيم «الدولة الإسلامية» في أوروبا، أي المخططات التي ردعتها مداهمات جرت في فيرفيرس، بلجيكا، بعد أسبوع من هجمات “شارلي إيبدو”.
وفي الواقع، شكلت هذه المداهمات لحظة حاسمة بالنسبة إلى مسؤولي مكافحة الإرهاب الأوروبيين والسلطات البلجيكية بشكل خاص التي أطلقت عملياتها بناء على معلومات مفادها أنّ الخلية تخطط لتنفيذ هجمات وشيكة وواسعة النطاق في بلجيكا.
وخلال المداهمات عثرت الشرطة على أسلحة نارية أوتوماتيكية، ومركّب ثلاثي الأسيتون ثلاثي فوق أكسيد الكربون (TATP) المتفجّر، وكاميرا تُثَبَّت على الملابس، وعددا من الهواتف الجوالة، وأجهزة لاسلكية يدوية، وأزياء شرطة، ووثائق هويات شخصية مزورة، ومبالغ كبيرة من المال.
تقييم استخباري
وتابعت بأنه واستنادا إلى معلومات من أجهزة الاستخبارات الأوروبية والشرق أوسطية، أحبطت المداهمات “هجمات إرهابية كبرى” كانت ستُنفَّذ في بلجيكا على الأرجح، على الرغم من أنّ التحقيقات في نشاطات المجموعة شملت عدة بلدان أوروبية، بما فيها فرنسا واليونان وإسبانيا وهولندا. وقد قاد العملية المواطن البلجيكي عبد الحميد أباعوض، وذلك من مخبأ في أثينا في اليونان عبر هاتف جوال، في حين عمل أعضاء المجموعة الآخرون في عدة بلدان أوروبية أخرى، حسب ما أفاد به المحققون.
ووفقا لتقييم استخباراتي قامت به وزارة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة، “أشارت العناصر التي ضُبطت أثناء تفتيش مساكن تابعة للخلية إلى أنّ خطط المجموعة قد تكون شملت استخدام الأسلحة الخفيفة والعبوات الناسفة (أجهزة تفجير ارتجالية)، فضلا عن انتحال شخصية عناصر من الشرطة”، بحسب المجلة.
وأكدت المجلة أنه سرعان ما بدأت السلطات تقتنع بأنّ التهديد الذي يواجه أوروبا لم يعد يقتصر على مجرمين منفردين متأثرين بالجماعة، بل أصبح يشمل مقاتلين إرهابيين أجانب مدرَّبين وذوي خبرة يتولّون تنسيق الهجمات بقيادة تنظيم «داعش» في ولايات قضائية متعدّدة.
وقالت فورين بوليسي: سرعان ما ركّزت السلطات على القبض على قائد المخططات البلجيكية أباعوض، الملقب بأبي عمر البلجيكي، إلا أنّه تمكّن من تضليل السلطات بالرغم من عملية مطاردة واسعة النطاق في جميع أنحاء أوروبا، وهرب من بلجيكا إلى سوريا، ومن ثم عاد إلى بروكسل. وتفاخر أباعوض في وقت لاحق بهروبه في مقابلة مع المجلة الدعائية “دابق” التي يصدرها تنظيم «الدولة الإسلامية» قائلا: “اسمي وصورتي علت الأخبار، ومع ذلك كنت قادرا على البقاء في أرضهم، التخطيط لعمليات ضدهم، ومن ثم المغادرة بأمان إذا تحتَّم عليَّ ذلك.”
وأشارت إلى أنه أصبح التهديد الذي يواجه أوروبا يتخذ شيئا فشيئا شكلا أكثر وضوحا. ففي نيسان/ أبريل 2015، ألقت السلطات الفرنسية القبض على أحد عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» كان قد طلب مساعدة طبية بعدما أطلق النار على نفسه عن طريق الخطأ.
ووجدت السلطات في شقّته أسلحة وذخائر، وملاحظات على أهداف محتملة، من بينها كنائس، والتي كان قد طُلب منه استهدافها من قبل شخص ما في سوريا، وذلك وفقا للمدعي العام في باريس فرانسوا مولان. وأفاد تقرير استخباراتي أمريكي بأنّ علاقة كانت تربط منفّذ العمليات التابع لتنظيم «داعش» بأباعوض، وأنّه أعرب في وقت سابق عن رغبته في السفر إلى سوريا.
وتابع تقرير المجلة، أنه وبحلول أيار/ مايو 2015، خلصت سلطات إنفاذ القانون الأمريكية أنّ تغيرا كاملا قد طرأ على طبيعة التهديد الإرهابي الذي يشكّله تنظيم «الدولة الإسلامية». وفيما لا تزال التهديدات صادرة عن مجرمين منفردين متأثرين بتنظيم «داعش»، استنتج تقييم الاستخبارات الأمريكية أنّ عمليات تنظيم «الدولة الإسلامية» في المستقبل سوف تشبه مخطط فيرفيرس المدروس الذي تمّ تعطيله. وأثبت ذلك المخطط “ذو طابع متعدد الولايات القضائية” لمسؤولي مكافحة الإرهاب الأوروبيين والأمريكيين أهمية تبادل المعلومات بين الوكالات الوطنية، إلا أنّ تنفيذ الإصلاحات اللازمة قد يتطلّب وقتا طويلا.
وأشار إلى أنه تسارعت وتيرة مخططات تنظيم «داعش» التي تديرها عناصر أجنبية في صيف 2015. ففي منتصف آب/ أغسطس، ألقي القبض على رجل كان قد عاد مؤخّرا من رحلة دامت ستة أيام إلى سوريا، أثناء محاولته تنفيذ هجوم على حفل موسيقي في فرنسا. وأخبر الرجل الشرطة أنّ مَن أمَرَه بتنفيذ الهجوم هو رجل تنطبق صفاته على أباعوض.
وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، تمكّن جنود أمريكيون في لباس مدني من السيطرة على مسلّح كان يحاول تنفيذ هجوم ضدّ قطار “تاليس” يتجه من أمستردام إلى باريس.
واستدركت المجلة بالقول: إلّا أنّ الحظ كفّ عن الابتسام عندما ضرب إرهابيون باريس في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015. وقد شكّلت تلك الهجمات المتعددة والمنسقة خروجا عن المخططات السابقة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وذلك على مستوى التدريب ومدى إحكام أمن العمليات التي نفّذها المهاجمون.
ووفقا لنشرة الاستخبارات الأمريكية، “أظهرت” هجمات باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر “قدرا أكبر من التنسيق واستخداما لتكتيكيات متعددة، ما أدّى إلى سقوط عدد من الضحايا يفوق الأعداد التي سُجلت في الهجمات السابقة لتنظيم «داعش» في الغرب.” وسرعان ما لاحظت قوات إنفاذ القانون أنّ نوع التكتيكيات والتقنيات والإجراءات المتبعة في تلك الهجمات هو النوع الذي يجب أن يتوقّعه الغرب من الآن فصاعدا.
ووفقا لتقرير مكافحة الإرهاب الصادر عن جهاز الشرطة في الاتحاد الأوروبي (“اليوروبول”)، أظهرت هجمات باريس والتحقيقات اللاحقة تحولا من جانب تنظيم «الدولة الإسلامية» تجاه “اكتساب طابع عالمي” في حملته الإرهابية.
وأشارت “اليوروبول” إلى أنّ التنظيم طوّر “إدارة خارجية للعمليات دُرّبت لتنفيذ هجمات على غرار تلك التي تقوم بها القوات الخاصة في البيئة الدولية.” وحذّر جهاز الشرطة أوروبا بوضوح تام قائلا: “لدينا كلّ سبب لنترقّب قيام [تنظيم «الدولة الإسلامية» أو إرهابيين متأثرين بتنظيم «الدولة الإسلامية» أو أي مجموعة إرهابية أخرى متأثرة بالدين بتنفيذ مرة أخرى هجمات إرهابية في مكان ما في أوروبا، ولكن في فرنسا بشكل خاص، بهدف إسقاط أعداد كبيرة من الضحايا بين السكان المدنيين”، بحسب “فورين بوليسي”.
ونوهت إلى أنه إذا لم يتّضح تطوّر التهديد الذي يشكله تنظيم «داعش» على أوروبا بشكل تامّ بعد هجمات باريس، فقد ظهر بوضوح كامل إثر تفجيرات بروكسل. وفي حين تدرك أوروبا على نحو تام مدى هذا التهديد، فلا تزال غير جاهزة للتعامل معه، ويشمل ذلك أوجه القصور في قدرات الدول الأوروبية على مكافحة الإرهاب، فضلا عن جهودها لدمج الجاليات المهاجرة في المجتمعات الأوروبية الكبرى التي تعيش فيها.
تحديات مكافحة الإرهاب
وأشار تقرير المجلة إلى أنه تم التأكيد على التحدياتَ التي تواجه مكافحة الإرهاب من خلال عدم استطاعة الأجهزة الأمنية القبض على صلاح عبد السلام لنحو أربعة أشهر بعد هجمات باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر.
وعلى نطاق أوسع، أظهر التقرير الأخير الذي أصدره منسق الاتحاد الأوروبي لشؤون مكافحة الإرهاب، عدم قيام جميع الدول الأعضاء بإنشاء اتصالات إلكترونية مع الإنتربول عند معابرها الحدودية. وكان التقرير صريحا على نحو غير معهود، معتبرا أنّ “تبادل المعلومات لا يعكس التهديد حتى الآن.” وسجّلت قواعد البيانات الأوروبية كمثال فاضح 2786 مقاتلا إرهابيّا أجنبيّا فقط تمّ التأكد منهم، بالرغم من أنّ التقرير أشار إلى “تقديرات موثوقة بسفر حوالي 5 آلاف مواطن أوروبي إلى سوريا والعراق للانضمام إلى تنظيم «داعش» وجماعات متطرفة أخرى.” والأسوأ من ذلك أنّ أكثر من 90 في المئة من التقارير الخاصة بالمقاتلين الإرهابيين الأجانب الذين تمّ التأكد منهم صدرت عن خمس دول أعضاء فقط في الاتحاد الأوروبي.
واستدركت بالقول: إلا أنّ تحديات الاندماج الاجتماعي لا تزال مهمة أكثر صعوبة. ففي بلجيكا بشكل خاص، إن ما يُعقّد الحوكمةَ هو نظام الحكومة الفدرالي المتشدد الذي لا ينقسم على مستويات الحكم المحلية والإقليمية والفدرالية فحسب، بل أيضا وفقا للجغرافيا واللغة والثقافة. بيد إن إيجاد حلّ لمشكلة الجاليات المهاجرة المحرومة من حقوقها في أوروبا عامة، وهي مشكلة طال تجاهلها، سيتطلّب وقتا ومالا لا يتوافر منهما ما يكفي.
وشددت المجلة على أن هاتين المجموعتين من التحديات -مكافحة الإرهاب والاستخبارات من جهة، والاندماج الاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى- ترتبطان بشكل معقّد. فلا تؤدّي العوامل الاقتصادية دورا أساسيا في التطرّف، وفقا لما أفادني به مسؤولون بلجيكيون، بل إنها عنصر معزز قوي يغذّي أزمة هوية ترتكز على نقص الفرص، والعائلات المحطّمة، والضعف النفسي، والتوتر الديني والثقافي، ومع نسبة بطالة تصل إلى 30 في المئة، ليس من المفاجئ أن يكون معظم البلجيكيين الملتحقين بتنظيم «الدولة الإسلامية» من مرتكبي الجرائم الصغيرة. فعلى سبيل المثال، فإن أحد المجنِّدين في مولنبيك، المسجون حاليا، كان قد اقترب من الشباب المحلي في المساجد المنتشرة في الأحياء، وأقنعهم بالتبرع بقسم من غلة جرائمهم الصغيرة لتمويل سفر المقاتلين الأجانب إلى سوريا.
وختمت المجلة تقريرها بالتحذير من أن مرتكبي الجرائم الصغيرة اليوم هم الانتحاريون المحتملون غدا، وهؤلاء لن ينفّذوا هجماتهم في مناطق الحرب البعيدة، بل في قلب البلاد التي تربوا فيها.
وكان التقييم الاستخباراتي الأمريكي الذي صيغ بعد هجمات باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر قد أنذر أنّ “انخراط عدد كبير من منفذي الهجمات وقادة المجموعات المقيمين في عدة بلدان في مخططات مرتبطة بتنظيم «داعش» قد يخلق عقبات هائلة أمام كشف النشاطات السابقة للعمليات وتعطيلها”. وهذه هي الحالة بالتأكيد، لكنها ليست سوى نصف المشكلة؛ إذ يبقى التحدي الأكبر الذي تواجهه البلدان الأوروبية الآن هو مواجهة إرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية» من الأوروبيين الذين يجري إعدادهم اليوم داخل حدودها.
المصدر : عربي21