لا تزال ستة أشهر تفصلنا عن موعد انعقاد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، ومن المستحيل أن نجزم بأي قدر من اليقين من سيكون المرشح لتمثيل أي من الحزبين الرئيسيين، ناهيك عن معرفة من سيصبح الشاغل الخامس والأربعين للبيت الأبيض.
ولكن ليس من السابق لأوانه تقييم الحالة المزاجية لنحو 320 مليون شخص هم سكان البلاد، وماذا قد تعني بالنسبة للرجل أو السيدة التي سيكون له أو لها الغَلَبة في ما يبدو في نظر أغلب الناس وكأنه مسلسل درامي سياسي لا نهاية له.
المزاج الغالب على الولايات المتحدة اليوم هو القلق الشديد، إن لم يكن الغضب الصريح، فقد نشرت صحيفة واشنطن بوست مؤخرا سلسلة رباعية الأجزاء من مقالات تكشف عن الغضب الشعبي الموجه إلى وال ستريت، والمسلمين، والاتفاقات التجارية، وواشنطن، ورصاص الشرطة، والرئيس باراك أوباما، والجمهوريين، والمهاجرين، وغير ذلك من الأهداف.
“المزاج الغالب على الولايات المتحدة اليوم هو القلق الشديد، ولكن الأسس التي تستند إليها هذه الحالة المزاجية غير بديهية بأي حال، لأن أميركا الآن أفضل حالا اقتصاديا مقارنة بما كانت عليه قبل نحو ست سنوات، في أعقاب الأزمة الاقتصادية ( 2007 -2008) مباشرة”
أسوأ ما قد ينطبق على أي شخص من أوصاف في أيامنا هذه هو “السياسي المحترف”، والمستفيدون من هذه الحالة الذهنية هم المرشحون الذين يعتنقون سياسات تتعارض مع التجارة الحرة وإصلاح قوانين الهجرة والذين يدعون إلى إصلاح جذري شامل للسياسات الضريبية وسياسات الإنفاق الحالية، وقد تتباين تفاصيل ما يدعون إليه إلى حد كبير، ولكن برامجهم تتقاسم وعد الخروج الجذري من الوضع الراهن.
الواقع أن الأسس التي تستند إليها هذه الحالة المزاجية غير بديهية بأي حال، لأن الولايات المتحدة الآن أفضل حالا من الناحية الاقتصادية مقارنة بما كانت عليه قبل نحو ست سنوات، في أعقاب الأزمة الاقتصادية في الفترة من 2007 إلى 2008 مباشرة.
فمنذ ذلك الحين، تم إنشاء أكثر من تسع ملايين وظيفة، وظلت أسعار الفائدة منخفضة (إلى الحد الذي يجعل القروض لشراء المساكن والسيارات أكثر إتاحة)، وكان هبوط سعر البنزين يعادل خفضا بقيمة 700 دولار للأسرة الأميركية المتوسطة. وعلاوة على ذلك، ارتفع مؤشر البورصة بنحو 200% منذ بلغ أدنى مستوى له قبل سبع سنوات، والآن أصبح الملايين الذين كانوا محرومين من التأمين الصحي من قبل يتمتعون بتغطيته الآن.
ولكن هذه الأنباء الاقتصادية الطيبة يقابلها في العديد من الحالات ضعف النمو في دخول الأسر التي ظلت راكدة من حيث القيمة الحقيقية (المعدلة تبعا للتضخم) لنحو خمسة عشر عاما، ولا تزال نسبة الأميركيين العاملين بدوام كامل أقل من المستوى الذي كانت عليه قبل سبع سنوات، ويخشى كثيرون أن تختفي وظائفهم بسبب المنافسة الأجنبية، أو التكنولوجيات الجديدة، أو الاستعانة بمصادر خارجية.
والآن يعيش عدد كبير من الأميركيين حياة أطول، ولكنهم يشعرون بالقلق بسبب فشلهم في ادخار الأموال الكفيلة بضمان أن تقاعدهم سوف يسمح لهم بحياة مريحة في سن الشيخوخة، ويدفع بعضهم أقساط التأمين الصحي التي كانوا يتجنبونها سابقا بسبب تشريعات الإصلاح التي استنت في عهد أوباما.
وهناك أيضا مسألة التفاوت بين الناس والتي تتسبب في إثارة حالة من الغضب الحقيقي، ولكن المشكلة ليست التفاوت في حد ذاته (الذي لا يُعَد أمرا جديدا برغم اتساع فجوته) بقدر ما تكمن في تراجع الفرصة. فالآن يفسح الحلم الأميركي المجال للوعي بالفوارق الطبقية، وهو تغير عميق في دولة تأسست على فكرة مثالية مفادها أن أي شخص قادر على تحسين أحواله من خلال العمل الجاد.
بيد أن أسباب القلق والغضب تتجاوز الحقائق والمخاوف الاقتصادية، فهناك أيضا انعدام الأمان المادي، سواء بسبب الجرائم أو الخوف من الإرهاب. وفي العديد من المجتمعات، هناك التخوف أيضا بشأن اتجاه الثقافة والمجتمع.
“الواقع أن أسباب القلق والغضب في الولايات المتحدة تتجاوز الحقائق والمخاوف الاقتصادية، فهناك أيضا انعدام الأمان المادي، سواء بسبب الجرائم أو الخوف من الإرهاب. وفي العديد من المجتمعات، هناك التخوف أيضا بشأن اتجاه الثقافة والمجتمع”
وتميل وسائل الإعلام الحديثة إلى زيادة الطين بلة، فنحن نعيش في عصر “البث المحدود” وليس البث العريض، إذ يضبط الناس أجهزتهم بشكل متزايد على قنوات الكابل أو المواقع على الإنترنت التي تعزز آراءهم وإيديولوجياتهم.
وقد يكون القليل من هذا مطمئنا، ذلك أن الحالة المزاجية الوطنية تتجاوز الحملة الانتخابية وسوف تشكل تحديا حقيقيا للرئيس الجديد والكونجرس، وسوف تعمل الانقسامات داخل وبين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على جعل الحلول الوسط وتشكيل التحالفات الضرورية للحكم من الأمور المستحيلة.
وسوف تعمل المخاوف بشأن التقاعد والقدرة على تحمل تكاليف الرعاية الصحية على زيادة صعوبة إصلاح الاستحقاقات، حتى برغم أن توسعها من شأنه أن يدفع الدين الوطني إلى الارتفاع إلى مستويات غير مسبوقة.
وهناك من يحملون التجارة الحرة -التي بدأت تفقد الدعم بالفعل- المسؤولية عن فقدان الوظائف، حتى على الرغم من أنها كانت أيضا مصدرا للوظائف الجديدة وتوسيع مجال الاختيار أمام المستهلك، كما عززت موقف أميركا الإستراتيجي في مختلف أنحاء العالم، والآن تحولت الهجرة -التي كانت لفترة طويلة جزءا من تراث البلاد ومصدرا للموهبة القيمة- إلى موضوع يثير قدرا هائلا من الجدال، حتى أن آفاق الإصلاح أصبحت قاتمة.
وقد يعمل مزاج الولايات المتحدة أيضا على تكثيف التركيز المحلي للمسؤولين، فمع نفورهم بالفعل من التورط في الخارج في أعقاب التدخلات في العراق وأفغانستان والتي كانت تكاليفها أعظم كثيرا من أي إنجاز لها، يتشكك العديد من الأميركيين في ما يمكن أن تحققه الولايات المتحدة في الخارج، وهم يشعرون بالإحباط وخيبة الرجاء إزاء الحلفاء الذين يرون أنهم لا يتحملون نصيبهم العادل من الأعباء المشتركة، كما أصبحوا مقتنعين على نحو متزايد بأن الحكومة بحاجة إلى التخفيف من تركيزها على العالَم وزيادته على علاج أوجه القصور التي تعيب الولايات المتحدة.
لا شك أن بعض الناس في بلدان أخرى سوف ينظرون إلى كل هذا بقدر كبير من الرضا والارتياح؛ ولكن في الإجمال، يشكل هذا خبرا سيئا في قسم كبير من العالم. فأميركا المشتتة المنقسمة من غير المرجح أن تكون قادرة على، أو راغبة في، أخذ زمام المبادرة في تعزيز الاستقرار في الشرق الأوسط، أو أوروبا، أو آسيا، أو في مواجهة التحديات العالمية. ومن المرجح في غياب الزعامة الأميركية أن تظل هذه التحديات قائمة بلا علاج، فتتحول إلى مشاكل أو أزمات.
ريتشارد ن.هاس
الجزيرة نت